المدينة المنورة - مروان قصاص:
المتابع لنهج قيادة المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز آل سعود - رحمة الله عليه - يلمس الاهتمام الكبير بالحجاج والمعتمرين، ولعل النجاح الباهر لحج العام الماضي كان أهم الشواهد على ذلك، لأن هذه البلاد تقدم الخدمات للحجاج والمعتمرين من خلال المشاريع الجبارة والتوسعات الكبيرة التي شهدها الحرمان الشريفان، وهي أحد الشواهد الحاضرة على ما قدمته المملكة وملوكها لخدمة الإسلام والمسلمين وهو ما يشهد له كل إنسان منصف.
ولا أحد يمكنه التقليل من دور المملكة ورعايتها غير المسبوقة للحرمين الشريفين، فما قدمته للديار الطاهرة وزوارها لم يسبق له مثيل، طوال التاريخ، ورغم هذا تتردد بين فينة وأخرى دعاوى مغرضة من أبواق مزعجة؛ هدفها لا ينحصر في الإساءة للمملكة وحدها، بل إثارة فتنة بين المسلمين.
الملك عبد العزيز بدأ أول توسعة للحرمين الشريفين
وقد بدأ الاهتمام بالحرمين وتوسعتها منذ تأسيس هذه الدولة المباركة، حيث بدأت التوسعة السعودية الأولى في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - فقد اهتم بعمارة الحرمين الشريفين منذ تشرف بالولاية عليهما، واعتنى بهما عناية بالغة، فلم يمض وقت يسير على توليه الحكم ودخوله مكة المكرمة في عام 1343هـ حتى أعلن البدء في ترميمات الحرمين الشريفين، وبذل كل غال ونفيس في سبيلهما.
وكان من أبرز ما أمر بعمله في المسجد الحرام :
1 - ترميمه للمسجد الحرام، وإصلاح كل ما يقتضي إصلاحه، وذلك في سنة 1344هـ.
2 - وضع السرادقات في صحن المسجد مع تزايد أعدادهم لتقي المصلين حر الشمس وذلك في سنة 1345هـ.
3 - أمر بعمل مظلات قوية ثابتة على حاشية صحن المطاف، ليستظل تحتها المصلون، فعملت من الخشب الجاوي وكسي بالقماش الثخين الأبيض، ثم عملت بعد ذلك مظلات ثابتة في أطراف الصحن مثبتة بالأروقة.
4 - أمر - رحمة الله عليه - بتأسيس أول مصنع لكسوة الكعبة المشرفة في عام 1346هـ.
5 - أمر بتبليط المسعى بالحجر الصوان، وكان ذلك أول مرة في التاريخ يرصف فيها هذا الطريق منذ فرض الله تعالى الحج على المسلمين ؛ مما كان سببًا في راحة الساعين من الغبار والأتربة.
6 - أمر بعمل سبيلين لماء زمزم مع تجديد السبيل القديم.
7 - أمر بإصلاح الحجر المفروش على مدار المطاف، وإصلاح أرض الأروقة، وترميم وترخيم عموم المسجد، وتجديد الألوان، وإزالة كل ما به تلف، كما تم إزالة الحصباء القديمة واستبدالها بأخرى جديدة، وذلك في سنة 1354هـ.
8 - أمر بتجديد سقف المسعى بطريقة فنية محكمة، وكانت مظلة السقف ممتدة بطول المسعى من الصفا إلى المروة، ويبلغ عرض السقف كله عشرين مترًا ونصف المتر، وقد كتب على هذه المظلة بخط جميل وبحروف بارزة من النحاس السميك مثبت في لوح من الصاج المتين طوله أربعة أمتار وعرضه متر واحد وأربعون سنتيمترًا في أربعة أسطر ما يأتي : «أنشئت هذه المظلة في عهد حضرة صاحب الجلالة محيي مجد العرب والمسلمين، خادم الحرمين الشريفين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، وقد تم إنشاؤها في سنة ألف وثلاثمائة وست وستين من الهجرة أثابه الله وأدام توفيقه».
9 - أمر بعمل باب جديد للكعبة مغطى بصفائح من الفضة الخالصة، محلاة بآيات قرآنية، نقشت بأحرف من الذهب الخالص.
10 - أمر - رحمه الله - بترخيم الواجهات المطلة على المسجد الحرام ورحباته ترخيمًا كاملاً في سنة 1370هـ.
وتواصل هذا الاهتمام بالحرمين من أبناء المؤسس - رحمهم الله - حتى هذا العهد الزاهر الميمون عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، حيث يجد المتابع أنه لا يخلو أي اجتماع حكومي يترأسه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أو ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز - حفظهما الله - من كلماتهم وتوجيهاتهم الداعية للعناية بالحجاج وخدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، وتسهيل كل الإجراءات التي تيسّر على الحجاج والمعتمرين أداء مناسكهم؛ كما يحرصان على تفقُّد المشاريع الضخمة واستمرارها وسرعة إنجازها لتكون في خدمة الحجاج.
اهتمام الملك سلمان
وولي العهد بالحرمين
ومنذ تولى خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - مهام الحكم جاءت أوامره وتوجيهاته التي تحث على العناية والمتابعة الكاملة لأعمال توسعات الحرم المكي الشريف والمسجد النبوي في المدينة المنورة، حيث شدد في كل خطاباته على أن أولى مهامه حراسة المقدسات الإسلامية والعناية بها، كما هو شأن قادة هذه البلاد بداية من الملك عبد العزيز - رحمه الله - وأبنائه من بعده إلى هذا العهد الذي وصلت فيه خدمة الحرمين إلى مرحلة لم يسبق لها مثيل.
وتبدو ثمرات ذلك الاهتمام في أصوات الآليات المخصصة للمشاريع التي تعمل ليل نهار في أرجاء المساحات المخصصة للتوسعات التي يتم العمل بها داخل الحرم المكي وخارجه في الساحات والمصليات التابعة له وكذلك في المسجد النبوي الشريف.
الجدير بالذكر أن المملكة تسعى لرفع الطاقة الاستيعابية لزوار بيت الله الحرام إلى 30 مليون معتمر بحلول 2030م تماشياً مع أهداف رؤية 2030.
ولضمان تحقيق هذا الهدف، يتواصل العمل على التوسعة الثالثة للمسجد الحرام، التي دشنها الملك سلمان بن عبد العزيز عام 2015 ، كما ستبلغ تكلفة مشروع توسعة الحرم المكي 100 مليار دولار على الأقل، تشمل تكلفة البنية التحتية وامتلاك العقارات.
وستقوم هذه التوسعة على خمسة مشاريع أساسية : مبنى التوسعة الرئيسي، مشروع الساحات، مشروع أنفاق المشاة، مشروع محطة الخدمات المركزية للحرم، والطريق الدائري الأول الذي يحيط بالمسجد الحرام.
وستضيف مساحة مقدارها الثلثين مقارنة بالمساحة السابقة للمسجد الحرام، حيث من المقدر أن تصل المساحة الإجمالية للحرم المكي إلى نحو مليون ونصف مليون متر مربع.
كذلك تهدف التوسعة الثالثة للمسجد الحرام إلى تطوير المبنى الرئيسي للمسجد والمسعى، وتطوير المطاف والجسور والساحات الخارجية والمصاطب، فضلاً عن تطوير محطات النقل والجسور التي تؤدي للحرم، وتوسيع نفق الخدمات والمباني الأمنية والمستشفى.
ويتضمن المشروع إنشاء 78 باباً أوتوماتيكياً يتم إغلاقها بالتحكم عن بعد وتحيط بالحرم في الدور الأرضي.
وتأتي هذه التوسعة امتداداً للتوسعات التاريخية السابقة التي بدأت منذ عهد الملك عبد العزيز آل سعود، أشهرها توسعة الملك خالد للساحات الشرقية وتوسعة الملك فهد للجانب الغربي من المسجد، وتوسعة الملك عبد الله للمسعى.
وكان قد دشن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - في مشروعات جديدة ضمن التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام بمكة المكرمة، هذه التوسعة التي تأتي امتداداً للتوسعات التاريخية السابقة التي بدأت بأمر الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس الدولة - رحمه الله - ، وتشمل هذه التوسعة التاريخية بإجمالي المسطحات لكامل المشروع 1.470.000 متر مربع، ليتسع المسجد الحرام لأكثر من 1.850.000 مصلٍّ، وللمشروع بوابات أوتوماتيكية تدار من غرف خاصة للتحكم بها عن بعد، بإجمالي عدد أبواب المشروع 78 باباً بالدور الأرضي تحيط بمبنى التوسعة.
وتواصلت عطاءات خادم الحرمين الشريفين وجهوده الجبارة للارتقاء بالخدمات المقدمة لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة، مُصدراً أمره الكريم بإنشاء هيئة ملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، تعمل على الارتقاء بالخدمات المقدمة في مدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، بما يتناسب مع قدسيتها ومكانتها، ويسهل خدمة ضيوف بيت الله الحرام من الحجاج والمعتمرين، بحيث يكون للهيئة مجلس إدارة برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء، ويعين أعضاؤه بأمر من رئيس مجلس الوزراء، كما تقوم هيئة الخبراء بمجلس الوزراء بالتنسيق مع الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، ومن تراه من الجهات ذات العلاقة، وخلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، بإعداد ما يلزم لاستكمال الإجراءات النظامية اللازمة.
استضافة المسلمين كضيوف
على خادم الحرمين الشريفين
ولم تتوقف خدمات المملكة على متابعة المشاريع والتوجيهات بالعناية بالحجاج فحسب، بل حرص خادم الحرمين الشريفين على تضميد جراح المسلمين في العالم، وإدخال الفرحة في نفوسهم كل عام، من خلال استضافة مجموعة كبيرة من المسلمين لأداء فريضة الحج يمثلون أكثر من 90 دولة، وذلك ضمن برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج الذي تشرف عليه سنوياً وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد.
وجاء تدشين قطار الحرمين السريع بمثابة إنجاز جديد وهدية أخرى قدمتها المملكة العربية السعودية لضيوف الرحمن، تحققت على يد الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - هدفها راحة الحجاج والزوار المعتمرين، وذلك عبر قطار الحرمين السريع المجهز بأفضل وسائل الراحة، وفق أحدث نظم النقل العالمية، ويربط بين منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة بطول 450 كم، ويتكون من خط حديدي كهربائي مزدوج يقطع المسافة بينهما بسرعة 300 كلم في الساعة، مختصراً المسافة بينهما إلى أقل من 150 دقيقة.
ويبلغ إجمالي المسطحات التي تم الانتهاء منها لكامل المشروع 1.5 مليون متر مربع، ويتسع المسجد الحرام لأكثر من 1.9 مليون مصل، وللمشروع بوابات أوتوماتيكية تدار من غرف خاصة للتحكم بها (78 باباً بالدور الأرضي تحيط بمبنى التوسعة)، ويحتوي المشروع على أنظمة متطورة، منها نظام الصوت، بإجمالي 4524 سماعة، وكذلك نظام إنذار الحريق، ونظام كاميرات المراقبة، بإجمالي 6635 كاميرا لكامل المبنى، وأنظمة النظافة، كنظام شفط الغبار المركزي، ومشارب مياه زمزم، ضمن منظومة متكاملة «مياه زمزم المبردة» بإجمالي 2528 مشربية، ما يوفر خدمات مميزة وأماكن للصلاة بالأدوار المختلفة، لتأتي متواكبة مع تزايد أعداد الحجاج والمعتمرين والزائرين الذين سيودعون بهذا المشروع التاريخي مشكلة الزحام إلى الأبد.
ويوثق المؤرخون والمتابعون جهود المملكة في هذا المجال، حيث أولت السعودية منذ نشأتها عمارة الحرمين الشريفين اهتماماً بالغاً، حتى وصل الأمر إلى ما هو عليها الآن في أكبر توسعة بتاريخ الحرمين الشريفين منذ إنشائه، مشاريع توسعة ضخمة لزيادة الطاقة الاستيعابية للزوار والحجاج وتوفير العديد من الخدمات، ولا يحق لأحد أن يزايد مطلقاً على عناية المملكة ببيت الله الحرام والمشاعر المقدسة في مكة المكرمة التي كرمها الله؛ إذ جعل البقاع المقدسة فيها، ولا يمكن تجاهل كيف حرصت المملكة على تشييدها وتوسعتها وصيانتها وأعمارها وتهيئتها للعبادة، وسيبقى التاريخ دائماً خير شاهد عدل وصدق على ما كان يؤكده المؤسس - رحمه الله - ، الذي بذل كل ما كان يملك من جهد في سبيل تيسير الحج على المسلمين وتأمين سبله، حتى أصبح الناس من أهل بلاده وضيوفها من حجاج وعمار وزوار يتنقلون عبرها من أقصاها إلى أدناها، في أمن وأمان، لا يخشون إلا الله، وكان تحقيق الأمن والاستقرار وتأمين سلامة الحجاج والمعتمرين وزوار الحرمين الشريفين وتيسير سبل الوصول إليها من كل فج عميق؛ أهم إنجاز حققه الملك عبد العزيز - رحمه الله - ، إذ كانت رحلة الحج قبل عهدة الميمون محفوفة بالمخاطر ومليئة بالأهوال.
وأكد الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الدكتور عبد الرحمن السديس أن مشروعات توسعة جديدة وكبيرة ستتم بالحرمين الشريفين باسم الملك سلمان عبد العزيز.
وقال إنه تم عرض تصور هذه التوسعات على خادم الحرمين الشريفين مؤخراً، إضافة إلى المشروعات الجديدة، وإكمال مشروع الحرمين في الدورين المتبقيين، وتظليل المطاف، وساحات المسجد الحرام.
وأبان أنه تمت تهيئة التوسعة السعودية الثالثة بجميع أدوارها لاستيعاب نحو مليون مصل، إلى جانب تجهيز صحن المطاف ليتسع إلى 107 آلاف طائف في الساعة.
وأكد أن رئاسة الحرمين لا تتدخل في عقائد الناس ولا في مذاهبهم وتوجهاتهم وثقافاتهم، مشيراً إلى حرص الرئاسة على الأمن الفكري وتعزيز منهج الوسطية والاعتدال.
وأبان السديس أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يشرف على 40 مبادرة قدمتها الرئاسة تم دمجها في 11 مبادرة، منها جامعة الحرمين الشريفين، وقناة الحرمين الشريفين، واستثمار الإعلام والتقنية، بالإضافة للبنية التحتية والتطوير، وإدارة الحشود، وطريقة التخلص من النفايات.
تطور خدمات الحج بشكل كبير
ومما يؤكد كثافة جهود المملكة وزيادتها وتطورها عاما بعد عام ما تحقق في حج العام الماضي 1439هـ والذي أشاد به العالم، إلا دول تكن العداء للمملكة وهي من سقط المتاع؛ لأن المملكة تمضي ولا تلتفت خلفها، فقد كان نجاح الحج فرحة للمحبين وغصة الكارهين وكان محل الإشادة بالمملكة حول العالم، حيث تصدرت صور الحج معظم الصحف العالمية وحملت التقارير والتعليقات الصحفية المرافقة إشارة للأعداد الهائلة من الحجاج الذين تستقبلهم السعودية وتستضيفهم خلال أيام معدودة في مساحة محدودة.
وقد منحت الصحافة العالمية في مختلف القارات السعودية شهادات الإشادة بقدرتها على تنظيم أكبر تجمع بشري على وجه الأرض محدد الزمان والمكان، بينما وسائل إعلام عربية وبعضها للأسف خليجية كانت تترقب وقوع أي حادثة كي تقيم سرادقات العزاء واللطم على أحوال الحرمين في العهدة السعودية ولكن الله سبحانه خيب آمالهم، وحققت السعودية كعادتها نجاحا كبيرا - ولله الحمد - لتؤكد للعالم قدرتها على القيام بواجباتها والاضطلاع بمسؤولياتها تجاه الحرمين الشريفين وضيوف الرحمن على أكمل وجه، لأن النوايا الصادقة والإخلاص التام كانا هما محرك العمل وغاية الإنجاز، لذلك بارك الله لهذه البلاد وعزها عبر الزمن ورد كيد كل من أراد بها شرا في نحره.
المسجد النبوي في المدينة المنورة
شهد المسجد النبوي الشريف الذي بناه رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - بيديه الشريفتين في السنة الأولى من الهجرة بعد قدومه إلى المدينة المنوّرة مهاجراً من مكة المكرّمة، نحو (10 توسعات) متعاقبة, أكبرها جرت في عهد الدولة السعودية، وكان أول مكان جرت إنارته بالمصابيح الكهربائية عام 1327هـ.
وكانت أرض المسجد (مكاناً لتجفيف التمر) واختط الرسول الكريم - عليه أفضل الصلاة والسلام - أرض المسجد فجعل طوله (50 متراً وعرضه 49 متراً)، وجعل القبلة إلى بيت المقدس، وحفر أساسه وسقفه بالجريد، وجعل عمده جذوع النخل وجعل له ثلاثة أبواب (باب في مؤخرة المسجد، وكان يُقال له باب عاتكة أو باب الرحمة، وباب جبريل؛ وهو الذي يدخل منه الرسول الأجل، وجعل في مؤخرة المسجد مكاناً مظللاً يُعرف بـ «الصفة» وهو المكان الذي كان يأوي إليه الغرباء والمساكين).
ولم يسقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل المسجد، وكان إذا نزل المطر يسيل مختلطاً بطين السقف على المصلين ولما طلبوا من النبي أن يزيد الطين على سقفه رفض، وقال : «لا، عريش كعريش موسى»، ولم يكن المسجد مفروشاً في بداية أمره؛ لكنه فُرش بالحصى بعد ذلك في السنة الثالثة من الهجرة, وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه من المسلمين إلى بيت المقدس ستة أشهر, أو سبعة أشهر, وكان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه أن تكون القبلة إلى الكعبة, فنزل قول الله تعالى (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، وكان ذلك - في أغلب الروايات - في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة, وبعد تحويل القبلة أغلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الباب الكائن في الجدار الجنوبي, جدار القبلة الحالية, وفتح بدلاً منه باباً في الجدار الشمالي, جدار القبلة سابقاً, وترك جزءاً من المسجد في الجهة الشمالية لأهل الصفة.
وشهد المسجد النبوي سلسلة من مشاريع التوسعة بدأت في عهد الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سنة 17هـ وفي سنة 29 للهجرة إبّان عهد الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - , ضاق المسجد النبوي بالمصلين، فشاور - رضي الله عنه - أهل الرأي من الصحابة في توسعة المسجد، فاستحسنوا ذلك، ووافقوه الرأي فبدأ بتوسعته وبقي المسجد النبوي على ما هو عليه بعد زيادة الخليفة عثمان بن عفان حتى عهد الوليد بن عبد الملك سنة 88هـ، دون أيّ زيادة، فكتب الوليد إلى واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز (86 - 93هـ) يأمره بشراء الدور التي حول المسجد النبوي الشريف؛ لضمّها إلى التوسعة، كما أمره أن يدخل حجرات أمهات المؤمنين في التوسعة فوسّع المسجد النبوي وأدخل فيه قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكانت زيادة الوليد من ثلاث جهات؛ وهي : الشرقية والشمالية والغربية، وأصبح طول الجدار الجنوبي (84) مترا والجدار الشمالي (68) متراً والغربي (100) متر؛ قُدرت هذه الزيادة بنحو (2369) متراً مربعاً.
وتوالت التوسعات وبعد توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - كان من اهتماماته الأولية رعاية شؤون الحرمين الشريفين، وأُجريت إصلاحات عدة للمسجد النبوي الشريف، وفي سنة 1365هـ لُوحظ تصدع في بعض العقود الشمالية وتفتّت في بعض حجارة الأعمدة في تلك الجهة بشكل لافت للنظر, فصدر أمر الملك عبد العزيز بعد دراسة المشروع بإجراء العمارة والتوسعة للمسجد, وصرف ما يحتاج إليه المشروع من نفقات دون قيدٍ أو شرط مع توسيع الطرق حوله، إذ أعلن الملك عبد العزيز في خطاب رسمي سنة 1368هـ، عزمه على توسعة المسجد النبوي الشريف والبدء بالمشروع، وفي سنة 1370هـ، بدأت أعمال الهدم للمباني المجاورة للمسجد النبوي الشريف، وفي ربيع الأول 1374هـ احتُفل بوضع حجر الأساس للمشروع بحضور ممثلين عن عدد من الدول الإسلامية, ونظراً لأن عمارة السلطان عبد المجيد؛ كانت في أحسن حال؛ فضلاً عمّا تتسم به من جمال وإتقان فقد تقرّر الإبقاء على قسم كبير منها، واتجهت التوسعة إلى شمال وشرق وغرب المسجد النبوي الشريف.
وفي سنة 1375هـ، انتهت العمارة والتوسعة وكانت العمارة قوية جميلة رائعة بالإسمنت المسلح, ونتج عن هذه التوسعة أن أضيف إلى مسطح المسجد (6033) متراً مربعاً, واحتفظ بالقسم القبلي من العمارة المجيدية، كما هو، وهو ما كان صالحاً للبقاء, وبذلك أصبح مجمل العمارة السعودية (12271) متراً مربعاً، وأُقيمت التوسعة كمبنى هيكلي من الخرسانة المسلحة وهي عبارة عن أعمدة تحمل عقوداً مدببة, كما قُسم السقف إلى مسطحات مربعة شكّلت على نمط الأسقف الخشبية وزُخرفت بأشكال نباتية, وعملت للأعمدة المستديرة تيجان من البرونز وزُخرفت أيضاً.. أما المآذن فقد بلغ ارتفاعها (72) متراً؛ تتكون كل واحدة من أربعة طوابق تناسقت في شكلها مع المنائر القديمة للمسجد، كما حُليت جدران المسجد بنوافذ جميلة، وجعل للمسجد صحنان مفصولان برواق بدلاً من واحد، وتمّت تغطية أرضية المسجد بالرخام، وأصبح للمسجد النبوي الشريف عشرة أبواب.
وكان لأبناء المؤسس من الملوك - رحمهم الله - دور في توسعة المسجد النبوي، حيث أحدث الملوك فيصل وخالد وفهد وعبد الله مشروعات عملاقة تضمنت مشروع مظلات المسجد النبوي، حيث جاء التوجيه بتصنيعها وتركيبها على أعمدة ساحات المسجد النبوي الشريف التي يصل عددها إلى (250 مظلة) تغطي هذه المظلات مساحة (143 ألف متر مربع) من الساحات المحيطة بالمسجد من جهاته الأربع يصلي تحت الواحدة منها ما يزيد على (800 مصل)، يُضاف إلى ذلك تظليل ستة مسارات في الجهة الجنوبية يسير تحتها الزوّار والمصلون، وهذه المظلات صُنعت خصيصاً لساحات المسجد النبوي على أحدث تقنية وبأعلى ما يمكن من الجودة والإتقان، خضعت لتجارب في بلد التصنيع واستفيد من التجربة في المظلات التي قبلها التي تعمل - بحمد الله - بكفاءة جيدة منذ أن انتهت التوسعة، ومع ذلك فإن المظلات الجديدة قد طُوّرت ودخلت عليها تحسينات في شكلها ومادتها ومساحتها وصُممت بارتفاعيْن مختلفيْن، حيث تعلو الواحدة الأخرى على شكل مجموعات لتكون متداخلة فيما بينها؛ يبلغ ارتفاع الواحدة منها (14 متراً و40 سنتيمتراً) والأخرى (15 مترا و30 سنتيمتراً) ويتساوى ارتفاع جميع المظلات في حالة الإغلاق بارتفاع (21 متراً و70 سنتيمتراً)، كما شهدت المدينة المنوّرة أواخر عام 1433هـ، أكبر توسعة في تاريخ المسجد النبوي الشريف, دشّنها الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - بوضع حجر الأساس لتوسعة المسجد النبوي لتصل طاقته الاستيعابية بموجبها إلى مليوني مصلٍ مع نهاية أعمال المشروع - بمشيئة الله تعالى - .
عناية الملك سلمان
بالمسجد النبوي
وتواصلت الجهود حتى هذا العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود الذي بدأ عهده الميمون بزيارة للمدينة المنورة، ووجه باستكمال مشروع توسعة المسجد النبوي الشريف ليواصل - رعاه الله - هذه المسيرة العطرة في بناء وعمارة الحرمين الشريفين, وخدمة ضيوف الرحمن، إذ يؤكّد - أيّده الله - في كل محفل أهمية المسيرة، والحرص على متابعة العمل في مشروعات التوسعة الكبرى بالحرمين الشريفين التي تصب جميعها في خدمة الإسلام والمسلمين في شتى أرجاء المعمورة، ولاسيما حجاج بيت الله الحرام، زوّار مدينة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
وقد توالت زيارات الملك سلمان وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز للمدينة المنورة لمتابعة مشروع التوسعة وأحداث نقلة حضارية شاملة في المدينة المنورة التي تعيش ورشة عمل دائمة.
وتتواصل في المدينة المنورة حالياً مراحل أكبر توسعة في تاريخ المسجد النبوي منذ إنشائه، هذه التوسعة ستضيف أكثر من مليون متر مربع للمساحة الحالية للمسجد، وأعمال الإنشاءات على هذه التوسعة يرافقها قيام مشاريع عملاقة أخرى في المدينة المنورة.
الجدير بالذكر أن مشروع التوسعة الكبرى للمسجد النبوي قد تصاحب مع عدة مشاريع وعناصر مرتبطة بها بشكل مباشر وغير مباشر، منها تطوير المنطقة المركزية، وكذلك مشروع شركة دار الهجرة، الذي يتكون من 100 برج إداري وفندقي، وبعض الخدمات وكذلك مشروع درب السنة الذي سيربط المسجد النبوي الشريف ومسجد قباء.
والتوسعة التي أمر الملك سلمان باستمرار العمل فيها هذه التوسعة سترفع الطاقة الاستيعابية للمسجد إلى مليون وستمائة ألف مصل.
وتابع - رعاه الله - أعمال المرحلة الأولى للتوسعة السعودية الثالثة للمسجد النبوي. على مساحة مئتي ألف متر مربع.
تعدد المشروعات التطويرية
وفي كل زيارة للمدينة المنورة يطلع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - على ما تم إنجازه من المشروعات التي يتم تنفذها بالمدينة المنورة ضمن نطاق مشروع التوسعة الكبرى للمسجد النبوي والعناصر المرتبطة به وهي :
1 - مجسم التصميم المعدل لتوسعة المسجد النبوي.
2 - مجسم مشروع إعادة إنشاء وتوسعة مسجد قباء.
3 - مجسم مشروع دار الهجرة.
4 - مجسم مشروع مخطط الوزارة للتعويض العيني.
5 - مجسم مشروع مركز الملك سلمان للمؤتمرات.
6 - عرض المخطط التطويري العام للمنطقة المركزية الجديدة للمدينة المنورة.
وقد اعتمد خادم الحرمين الشريفين التصميم المعدل لتوسعة المسجد النبوي الذي يتضمن بناء المرحلة الأولى في الجانب الشرقي، والمرحلة الثانية في الجانب الغربي مع توسعة الصفوف الأولى وتأجيل المرحلة الثالثة في الجانب الشمالي إلى حين جاهزية الأبراج السكنية البديلة لاستيعاب السكان في هذه المرحلة.
مركز الملك سلمان الدولي للمؤتمرات
وخلال زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - للمدينة المنورة في شهر محرم الماضي قام - رعاه الله - بتدشين مركز الملك سلمان الدولي للمؤتمرات في المدينة المنورة.
ويقع المركز على مساحة إجمالية تبلغ (91.000) متر مربع، بما فيها مسطحات مبان بمساحة (60.000) متر مربع، ويتضمن مدرجاً رئيسياً للاحتفالات بطاقة استيعابية (2.500) شخص، وثلاث قاعات متعددة الأغراض تتسع كلٌّ منها لنحو (500) شخص، والعديد من غرف الاجتماعات بطاقة استيعابية تزيد على (500) شخص، وصالة للاحتفالات ومركزاً إعلامياً ومكاتب إدارية وتجهيزات أخرى مساندة.
كما يشتمل المركز على 1200 موقف مخصص للسيارات، ويبعد 6 كيلو مترات عن المسجد النبوي و12 كيلومتراً عن المطار.
كما اطلع خادم الحرمين الشريفين على مشروع مجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية، حيث قدم أمين عام مجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية المكلف الدكتور حسن السريحي شرحاً عن مجموعة من المخطوطات النادرة يصل بعض أعمارها إلى أكثر من ألف سنة، ونماذج لمصاحف مخطوطة منذ 940 سنة وبعض التحف والمقتنيات الأثرية وبعض اللوحات بالخط العربي لخطاطين مشهورين على مر التاريخ.
كما اطلع خادم الحرمين الشريفين على تصاميم مشروع مجمع الملك عبد العزيز للمكتبات الوقفية الذي يعد جزءاً من محور قباء الحضري ويحدده الطريق الذي يربط مسجد قباء مع المسجد النبوي على مساحة إجمالية تقدر 9435م، ويوفر بيئة ملهمة تتمازج مع أحدث التوجهات في تصميم المكتبات كما يراعي التصميم الاحتفاظ بخصوصية وطبيعة منطقة المدينة المنورة.