د.عبدالله بن موسى الطاير
يحدث الانتحار السياسي عندما يسند تخطيط وتنفيذ عمليات التحول الوطني إلى مجموعة من الهواة أو إلى شركات أجنبية متخصصة في الدراسات الاقتصادية غاية منجزاتها وضع تصورات التحول ومتابعة تنفيذها للشركات والمنظمات وليس البلدان. ومن أغرب ما يقال في هذا السياق أن يتعلم عراب التحول الاجتماعي مبادئ الاستراتيجيا أول النهار ويطبقها آخره في خطط معقدة لإعادة هندسة المجتمع.
إن التحول الاجتماعي يحدث تغييرات عميقة في نمط الإنتاج وأسلوب الحياة، ويقود إلى متغيرات هيكلية في الاقتصاد والثقافة والسياسة والمجتمع ثم يفضي في نهاية المطاف إلى تحولات في طبيعة السلطة السياسية. أي أن من يزعم أنه يمكن أن يحدث تحولاً اجتماعيًّا دون الانتهاء بتغيير في طبيعة النظام السياسي هو جاهل بمقتضيات التحول في تاريخ الدول والأمم.
عندما تبدأ أولى خطوات التحول الوطني فعلى المخطط أن يتوقع حدوث التوتر بين الفئات الاجتماعية، فظهور قيادات جديدة، ونخب طارئة تريد فرض وجودها هو أحد متطلبات التحول ولكنه يعرّض الجماعات القائمة للتهديد، ويحفز المهمشين والوصوليين لانتهاز كل الفرص الممكنة للقفز إلى قمرة التغيير، ونتيجة لذلك يحتدم الصراع بين الطبقات والفئات الاجتماعية، وفي حالة غياب السيناريوهات البديلة المعدة لامتصاص النتائج غير المرغوبة فإن المجتمعات التي تعبر منعطفات التحول تتعثر وتنشغل بخلافاتها بدلا من مواصلة عملياتها.
عندما تخلق عمليات التحول في البلدان الديمقراطية فاعلين جدد، وتؤسس لصراع بين النخب الحالية، والطامحة لمزيد من الأدوار فإنها تأخذ الحراك إلى المزيد من المشاركة السياسية، وبذلك تتيح قنوات شرعية للمنافسة وتفريغ الاحتقان ويفرز النظام الاجتماعي حلولا تنقذ عملية التحول الجارية. بيد أن المرونة التي تتمتع بها الأنظمة الديمقراطية لا تتوفر لغيرها من الأنظمة، ولذلك فقد رأينا كيف تدرجت الصين وروسيا في عملية التحول؛ حيث مكنتهما الخبرة الضخمة والفرق الاحترافية التي هيأتاهما لإدارة عملية التحول من رصد التفاعلات السلبية، والتدخل في الوقت المناسب للحيلولة دون فرض التحولات في المجتمع والاقتصاد والثقافة استحقاقات جوهرية في طبيعة النظام السياسي. وبقدر تقييد الصين، مثلا، التغيير الاجتماعي والثقافي، أطلقت التحول الاقتصادي نحو السوق المفتوح. ومن الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الصين لضبط التحول في المجالين الاجتماعي والثقافي أنها لم تسمح للعولمة بأن تشكل أنساقها الاجتماعية والثقافية، فعملت على عزل المجتمع الصيني عن شبكات التواصل الاجتماعي التي تعد أهم أدوات ووسائل الهيمنة الثقافية وطريقة الحياة الغربية. فالصين بالقدر الذي توسعت فيه في تعليم اللغة الإنجليزية فإنها رسخت لغاتها الوطنية وحمتها من أي تأثير خارجي يمكن أن يهدد هويتها، وكذلك فعلت مع معتقداتها البوذية وعقيدتها الاشتراكية.
التجربة الصينية في التحول قامت على عقول صينية وعلى تزاوج بين العلم والخبرة، ولم تقم على إقصاء النخب لبعضها ولا على أكتاف متسلقين لم يسجل لهم إنجاز يذكر، كما أن الصين لم تسلّم تشكيل مصيرها للشركات الاستشارية الغربية، وبذلك ضمنت أن التحول لن يؤدي إلى مشاركة سياسية أوسع ولا إلى تغيير في النظام السياسي القائم باتجاه النمط الغربي في الحكم، وإنما قادها التحول المنضبط إلى رئاسة مدى الحياة لتحافظ على الاستقرار والنمو.
حجم التحول الذي يمر به المجتمع السعودي لافتٌ، ونتائجه ستكون عميقة وذات تأثير في المستقبل على جميع الأصعدة، ولذلك فإنني أسأل: كم من العلماء والباحثين السعوديين شاركوا في التخطيط لهذا التحول ومراقبة تفاعلاته ورصد مداه وتوقع مآلاته؟ وبلغة قابلة للقياس: كم نسبة المدخلات المحلية إلى غيرها؟ وهل الفجوة العمرية في إدارة التغيير حقيقية أم هي مجرد احتكاك طبيعي بين طبقتين من طبقات المجتمع تتفاعلان في بوتقة التحولات؟ وهل هناك فريق أو جهاز وطني يتمتع بالعلم والخبرة والتجربة والحكمة يرصد عملية التحول ويدرس ارتداداتها، كما فعلت الصين، أم أن الأمر متروك للصدف والظروف، مما قد يجعل التغيير والتحول -لا سمح الله- وبالاً على استقرار بلادنا بعد عقد أو عقدين؟