عمر إبراهيم الرشيد
ما بال أوروبا وكأنها تنقلب على نفسها وتعيد النظر في فلسفتها الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية؟!، مع العلم أن سؤالاً كهذا لا يسعه مقال صغير، إنما الذي يحدث في باريس (مدينة الأنوار) وبريطانيا كمثال، يبعث على هكذا تساؤل. فرنسا بلد الفلسفة والتنوير كما يطلق عليه، ومدينة الأنوار كما توصف عاصمته باريس، تشهد أعمالاً لو أنها حدثت في أحد العواصم العربية لهاجت عواصم غربية ومنظمات مدنية وحقوقية، طلبًا للتحقيق وإجلاء الأمور، ولوصف شعبها بالتخلف والبربرية وانعدام الحس الديمقراطي.
ولإنعاش الذاكرة التاريخية، فإن الثورة الفرنسية والتي انطلقت من سجن الباستيل تحت شعارات العدل والحرية والمساواة، أخذت تأكل أبناءها كما يقول المثل، فنصبت المشانق في مختلف المدن الفرنسية لقطع رؤوس كل من اتهم حقاً أو زوراً بمعاداة الثورة أو الإقطاعية، فحصدت عشرات الألوف من الفرنسيين في محاكم ثورية، ولم تؤت الثورة نتائجها إلا بعد مرور ثمانية عقود من الزمن أو أكثر، على أن تلك الديمقراطية انكشف زيفها بالنسبة للشعوب المستعمرة من قبل فرنسا وأولها الشعب الجزائري الذي قدم حوالي ثمانمئة ألف من أبنائه دفاعاً عن التراب الجزائري .
وقراءة لما وراء أحداث باريس وأزمة (البريكست) في بريطانيا، هل تعيد المجتمعات الغربية وحكوماتها النظر في ممارسة ديمقراطيتها ورأسماليتها (المتوحشة) التي أعلت من الفردانية على حساب المجتمع وقيمه؟، هو مجرد تساؤل. ثم هذه الديمقراطية التي أتت تراكمياً كما قلت من خلال الثورة الفرنسية كمثال، ومن خلال الحروب الطاحنة التي دارت بين دول أوروبا خلال قرون من الزمن انتهت بالحرب العالمية الثانية بعد أن حصدت عشرات الملايين من البشر، حيث أدركت الشعوب الغربية قيمة الأمن التي حرموا أنفسهم منها، فهل تعيد النظر في هذه الديمقراطية بضبط أو لجم سعار وجشع الفرد ليغدو أكثر انضباطًا ومسؤولية؟، ربما المثل البريطاني والفرنسي يطلق الأسئلة لدى صفوة المجتمعات الغربية من مفكرين ومثقفين وأكاديميين وغيرهم. وإذا قلت بريطانيا فإن تنظيم استفتاء شعبي في مسألة لا يفهم تعقيداتها رجل الشارع سقطة في واد سحيق من قبل مشرعين وسياسيين لم يجدوا إلى اللحظة سبيلاً للخروج منه، ما يقودنا أيضًا إلى التمعن في حقيقة أن شؤون الدولة الكبرى من سياسة واقتصاد وأمن يصعب أن يفصل فيها رجل الشارع وصندوق الاستفتاء.
هل هذه الاضطرابات والمواجهات الملتهبة والباردة مقدمات لما بعدها من كوارث -لا قدر الله- حدوثها، كما حدث من إرهاصات ما قبل الحربين العالميتين، من أزمات اقتصادية هي ما يحرك شوارع باريس وغيرها ويأجج نعرات أحزاب اليمين في أوروبا حالياً؟، الله تعالى أعلم، إنما هذه الدروس تكتوي بها باريس ولندن وواشنطن وغيرها لتتعلم أن الدروس التي تحاول تعليمها لغيرها يتوجب أن تتعلمها هي أولاً، إلى اللقاء.