عبدالعزيز السماري
تتناول بعض الأبحاث العلمية مسألة غسيل الدماغ، وهل هي حقيقية أم أنها مجرد طرح نظري ليس له وجود في الواقع، لكن تعلّمنا من التاريخ كيف استطاعت النازية أن تغسل أدمغة مواطنيها ضد الآخرين لدرجة التسمم، ولم يفق المجتمع من تأثيراتها إلا بعد احتلال برلين وسقوط الزعيم، كذلك في الشيوعية كان مؤثِّراً لدرجة طويلة، على الرغم من أن مبادئ الشيوعية تناقض أبسط غرائز الإنسان.
في علم النفس، يُشار إلى غسيل الدماغ غالباً باسم الإصلاح الفكري، على أنها مجموعة من الطرق التي يمكن من خلالها تغيير مواقف الآخرين ومعتقداتهم وسلوكياتهم في المجتمع، على طريقة «افعلها فقط»، أو «افعل ذلك لأنه سيجعلك تشعر بالرضا والسعادة، أو «افعل ذلك لأنك أعلم أنه الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله». غسل الدماغ هو شكل حاد من أشكال التأثير الاجتماعي الذي يجمع بين كل هذه الأساليب لإحداث تغييرات في طريقة تفكير شخص ما دون موافقة ذلك الشخص وأحياناً ضد إرادته.
غسل الأدمغة قد يكون أيضاً شكلاً من أشكال التأثير الغازي، ويتطلب العزل التام والاعتماد على الذات، ولهذا تجري عمليات غسيل الدماغ في معسكرات الاعتقال أو في المجتمعات الطائفية، وفي عملية غسيل المخ، يقوم العامل بشكل منهجي بتفكيك هوية الهدف إلى درجة أنه لم يعد يعمل، ثم يستبدلها الوكيل بمجموعة أخرى من السلوكيات والمواقف والمعتقدات التي تعمل في البيئة الحالية للهدف.
لكن التوجهات العلمية تشير إلى أنه حتى في ظل ظروف غسيل دماغ مثالية، تكون تأثيرات العملية في أغلب الأحيان قصيرة الأجل، لأنه لا يتم القضاء على هوية الضحية القديمة لغسيل المخ في الواقع من خلال العملية، ولكن بدلاً من ذلك يتم إخفاؤها، وبمجرد توقف الهوية الجديدة عن العمل، فإن المواقف والمعتقدات القديمة للشخص تبدأ في العودة.
وهو ما يعني أنها غير مجدية بشكل مؤثِّر إذا كانت تخالف الهوية الحقيقية للضحية، لكن تصل إلى درجات عالية من النجاح عندما تكون موجهة من خلال المعتقد، ويبدو ذلك في تجارب بعض الجماعات الدينية المتطرفة، والتي تستخدم خطاباً دينياً مباشراً يرفع من درجة الأتباع إلى موقع الأولياء المخلصين لله عزَّ وجلَّ، وأن غيرهم في موقع الأغيار المخالفين.
كانت اليهودية في صورتها الحالية أول من استخدم هذا النموذج في التاريخ، فاليهودي مغسول دماغه لدرجة اليقين أنه السامي وغيره نسل بشري دوني، وتعلّمت بعض الجماعات الإسلامية هذا النموذج الذي يجعل من غير الأتباع درجة دونية عند مقارنتها بالموالين، وعلى سبيل المثال تقدم جماعة الإخوان المسلمين أحد أمثلة الخطاب الإقصائي الذي يوهم التابع أنه في درجة أعلى من غيره، ولذلك فهو يستحق الأخوية والسمو.
ويبدو المثال متطابقاً مع مصطلح حزب الله وأنصار الله والجماعات السنية المتطرفة كالقاعدة وداعش وغيرهم من الجماعات الدينية في مختلف الأديان، فهؤلاء يستخدمون الهوية القديمة من أجل تأطير الدماغ في أفكار محدده ثم توجيهها ضد الآخرين المخالفين، وتلك أنجح عمليات غسيل الدماغ المغلقة في التاريخ الإنساني، وبينما تواجه محاولات غسل الدماغ ونقله من معتقده القديم إلى جديد صعوبات في الاستمرارية والنجاح، وأنجح الأمثلة على ذلك العودة السريعة للقوميات السوفيتية إلى معتقداتها القديمة بعد سقوط الإمبراطورية الشيوعية.
خلاصة الموضوع أن موجات غسيل الدماغ دخلت منحنى جديداً بعد ثورة الاتصالات، فالإشارات أصبحت تجد متلقين لها في مختلف أنحاء العالم، ولم يعد أمام الدول إلا أن تكون في موضع أسمى من أن تفرض أفكاراً محددة بأساليب الحصار والتلقين، ولعل أنجح وسائل الإصلاح الفكري أن تدعو من خلال ثوابتها إلى احترام الإنسان وتعزيز حقوقه ورفع درجة ثقته في حكومته من خلال العمل الجاد والشفافية والنتائج الإيجابية..