حوار - محمد صالح الهلال:
شاب يعشق الفلسفة، ويهوى اقتحام الموضوعات المسكوت عنها، أو المحظورة اجتماعياً، درس الفلسفة وأبدع فيها وله عديد من الكتب والترجمات، وهي، (العقل في حريم الشريعة العقلانية عند الشيخ محمد عبده) 2005، (في الحرية والديمقراطية) 2008، (الجميل والمقدس -دراسات غير تقليدية في الحضارة الإسلامية) 2008، (التنوير في الإِنسان شهادة جان جاك روسو) 2009، (شؤم الفلسفة -الحرب والفلاسفة في الإسلام)2010، (المكعب الستة - ألعاب اللغة عند فتفشتان) 2011، (معصية فهد العسكر - «الوجودية» في الوعي الكويتي) 2013، (رحلة إلى أسرار الشرق القديم) 2014، (عقلاني الكويتي - نظرات حول التفكير النقدي الحر للدكتور أحمد البغدادي) 2015. قال عن المفكر محمد أركون (هذا الشاب يعول عليه كثيراً خذوا بيده وخذوا من أفكاره الكثير لأنه ممتلئ) تحاورنا معه بخصوص الفلسفة والمجتمع الخليجي فكانت إجابات الأستاذ عقيل يوسف عيدان.
هل الفلسفة الغربية غاية في ذاتها أم وسيلة للتنوير بالنسبة لك؟
- بعيداً عن ثنائية الغاية والوسيلة، التي أفهمها بصورة متباينة عن الشائع العمومي، فإن الفلسفة -بصورة عامة - وفِي عِدادِها الغربية، تشجعنا على أن نهدف دائماً إلى تجاوز أنفسنا وإيجاد صوتنا والإقدام على جعلها مسموعة. وهذا الأمر لم يتأتَّ في التاريخ الحديث سوى مع الفلسفة الغربية -مع تحفظي على كلمة الغربية - التي تبنّت البصيرة عبر «الشك» منهجاً وسبيلاً، فهو -أي الشك - يدفعنا إلى إقامة مسافة نقدية لأنفسنا، أو إلى التفحّص النقدي لوعينا وخطابنا وتقاليدنا وتراثنا.. إلخ، وتجاوز جمودنا وانغلاقيتنا، فمن دون التشكيك في أنفسنا وما يتصل بِنَا، لن نكون ما نحن عليه الآن. ومن المعلوم -عند البعض المهتم على الأقل- أن الفلسفة الغربية نشأت أصلاً، بدءاً من الفيلسوف سقراط ومن تلاه، كأداةٍ عملية -وليست نظرية فقط- تساعدنا على العيش بشكل أفضل عبر فهمها، وهو ما يجعل حياتنا الدنيا أكثر تحمّلاً. ولا يفوتني أنني بهذا الرأي أستعيد بعض ما ردّده عدد من فلاسفة الإسلام في العصر الذهبي للحضارة العربية/ الإسلامية في القرن الرابع الهجري وما بعده، الذين اطلعوا بدورهم -آنذاك - على الفلسفة الإغريقية (الغربية) وما إليها.
هل المجتمعات الخليجية تقوم على ثقافة واحدة؟ أم هناك ثقافة سعودية، كويتية، قطرية، مثلاً؟
ج/ الأمر يتعلق بالتجارب التي خاضها كل مجتمع - دولة في حوض الخليج. لا شك، بالطبع، من وجود تقاطعات رئيسة ومعطيات أصيلة بين تلك الدول لا تخطؤها العين، أو تفوت الراصد، ولا سيما في المجال الاجتماعي والجغرافي، غير أن هناك افتراقات أيضاً، قد لا يفضّل الأكثرية الحديث عنها، لكنها موجودة بالفعل، وتظهر جلية في وقائع ومواقف عديدة، مستندة على تجربة كل مجتمع ودولة، فعلى سبيل المثال، ليس من الإدراك السليم أن يتم إغفال الممارسة الديمقراطية المتفرّدة، أو إهمال فاعلية الحرية والانفتاح الواعي في الكويت وما صاحبها من شجاعة التعبير عن الرأي والضمير بالقول والفعل، أو تجربة التسامح الديني الرائدة في البحرين بين المسلمين (الشيعة والسنة) والمسيحيين والبهائيين وغيرهم، مع التجارب الخليجية الأخرى الخجولة في هذا الخصوص، حتى لا أقول المعدومة.
ما الذي دفع عقيل عيدان نحو دراسة الفلسفة وهل المجتمع محتاج إليها مثل. ما نحتاج إلى الطب مثلاً؟
- ابتداءً، فأنا اعتبر الفلسفة مكاناً «نسكنه» على هذه الأرض. ولهذا، فإنه لن يكون للفلسفة -بالنسبة لي- دوراً ثانوياً على الإطلاق؛ أي دور تسلية وتزيين. إن عشقي للفلسفة له قبيلة من الأسباب، أختار منها مثلاً، أنها كانت وراء تعليمي أن النظر في الأسئلة والمشاكل لا يكون من طرف واحد، وإنما من وجهات نظر شتى، فالفلسفة تحدد عديداً من الإجابات المحتملة وعواقبها، وعندها فقط أدركتُ مدى تعقيد المسألة. من هنا، أنقذتني الفلسفة من الوقوع في دَغَل الإجابات المتسرّعة والقرارات الانفعالية.
إلى ذلك، فإن معضلة الفلسفة في المجتمع، أن طريقة تفكير الفلاسفة لمعالجة المسائل والقضايا -الأخلاقية مثلاً - هي مُربكة تماماً لتقاليد المجتمع والناس. ذلك أن طموح الفلسفة أن يتم اعتماد مبادئ توجيهيّة أخلاقية قبل استدعاء أي حجّة دينية، والتمسُّك بالبرهان العقلاني والبيانات الموضوعية القابلة للقياس. وبالرغم من ذلك، ففي ظني أن المجتمعات لا يمكنها أن تستغني عن الفلسفة، حتى ولو لم تقدّر أو تعي ذلك، فسواء كان في الحب أو الصداقة أو العمل أو النشاط البدني أو الدين أو الالتزام السياسي.. فقد كان الفلاسفة روّاد في عديد من الطرق لجعل الحياة أكثر كثافة وحضوراً، أو المساعدة في إعادة الاتصال بالعالم.
من يقرأ كتابك «معصية فهد العسكر- الوجودية في الوعي الكويتي»، يجد منك إصراراً على وجودية فهد العسكر وإن فكره، فكر وجودي علماً أن في ذلك الوقت حتى الفكر الشيوعي منتشر في الخليج والعالم العربي فالمبادئ التي يدعو لها فهد تقارب الشيوعية أيضا مثل الحرية والمساواة؟
- في هذا الكتاب، أجادل بأن الأطروحة «الوجودية» هي من تعبّر بصدق أكثر من غيرها من التوجهات عن أشعار ومواقف فهد العسكر. وباختصار شديد جداً، فإن ما يؤكد وجودية العسكر ويثبت انتسابه إلى قافلة الوجوديين -في وعيي- أنه حارب الزيف والتصنّع بما يهدّد بمسخ الإِنسان وتحويله إلى آلة «مُبرمَجَة»، عاجزة عن أن تكون مأخوذة بوعيها الذاتي وحريتها. إن فهد العسكر مع ذاته الفردية، كان قد مارس حقّه في «الاختيار» -الكلمة الوجودية الأثيرة - حتى ولو لم يجد نصيراً، مع الحرية وحق الرفض والمقاومة، ومع إِنسانيته وحقّه في التجريب وحرية الممارسة، وضد النمذجة والإعداد المسبّق وإدّعاء ما لا يكون، وضد الإمعيّة والتقييد كما التقليد. وفِي ظني أن كل ما مر فيما ذكرت مما لا ينطبق على الشيوعية وسواها من تيارات الفكر التي شاعت في منطقة الخليج، وإن كانت هناك بعض مناطق التلاقي والاهتمام المشترك
لماذا فهد العسكر ونماذج على شاكلته مثل عبدالله القصيمي لم تأثر في المجتمع الخليجي ولم تغير في ثوابتهم شيئاً وظل المجتمع مخلصاً للعادات والتقاليد والموروث الديني؟
- عندي إجابتان لسؤالك، أولاً لا يفوتك أن المجتمع الخليجي -على غرار أكثرية المجتمعات العربية- كان غير مُنصف دوماً تجاه الفرد «الحُر» أو «المختلف» وصاحب الرأي المتمرّد على «البرمجة» الاجتماعية، وخطورة ذلك أن تلك المجتمعات -والحالة هذه- قد عملت على تحطيم تلك «العبقريات» وترسيخ الفرد «العادي» المطيع، الذي لا ينفع أو يضر، ومن ثم لا يتحرّك أو يغيّر. الإجابة الأخرى، أن من ينتبه إلى الخطاب الفكري الخليجي المعاصر، يمكنه أن يرصد بعض التبدّل الظاهر باتجاه تبلور خطاب حر وجريء ومقدام أكثر، وهو مستوحى من صوتيّ فهد العسكر وعبدالله القصيمي ومن إليهما، وقد بدأ ذلك مع الاتجاه الواضح نحو تأليف الكتب وكتابة المقالات وإقامة الندوات والمحاضرات، التي عملت على تحطيم ورفع إطار العزلة والإقصاء عن فكر وإبداع ومواقف العسكر والقصيمي، اللذين كانا من «المحرمات» الاجتماعية في يوم من الأيام. ولا يفوتني التأكيد أن الانفلات من «المقدّس» -أو ما يبدو كذلك- ليس بالأمر الهيّن، إِذ هو عملية نضالية تاريخية طويلة.
هل للصحراء ثقافة؟ وما ثقافة الصحراء وهل المجتمع الخليجي ينتمي إليها؟ وهل ثقافة إيجابية على الفرد أم سلبية؟
- لكل حيّز جغرافي «ثقافة» أي معرفة تتأثر بطبيعته المحسوسة أو المعقولة، وكلما ازدادت المعرفة وتنوّعت ارتقى المستوى الثقافي. ولما كانت «الصحراء» ذات ثقافة «واحدية» لا تنوّع فيها، فقد كانت ثقافة ضيّقة حتى لا أقول «مغلقة»، كما كانت تتصف بالارتياب وبخاصة من الآخر ومن كل مُستحدث. وهي بهذه الصيغة سلبية ولا شك، نوقد أطْبَقت على وعي أبناء المنطقة بصورة عامة لمدة ليست بالقصيرة. غير أن ذلك لم يعد كذلك، فالجدود كانوا يركبون الجمال والحمير، أما نحن فنركب السيارات والطائرات، ولا بد أن يكون الفرق بين أفكارنا وأفكارهم على نسبة الفرق بين الارتحال على جمل والسير في سيارة. إن المنصف ليرصد تغيّر الحال في الخليج، ولا أتكلم هنا عن التغير الكمّي أو الوضع الاقتصادي المرتفع بسبب النفط، فهي أسْوأها على الإطلاق، وإنما عن البَحْبوحَة المعرفية والعلمية والثقافية وما إليها، التي أضحى الفرد الخليجي -مع الانتباه إلى التفاوت والنسبية بين كل مجتمع ودولة- يتمتّع بها، والتي كان وراءها قلْب هرم ثقافة الصحراء، صَوْب الانفتاح على الآخر القريب والبعيد على حدّ سواء، وتقبّل الجديد النافع والمبتكر المفيد ولو بصورة نسبية.. وذلك لن ينتعش ويتنامى إلاّ إذا تم تطوير مجموع روافد الثقافة ومكوناتها، فالثقافة هي أقرب للجسم تحتاج لكل أعضائها وأطرافها وبتْر أو إقصاء أحدها يشكّل عدواناً على الحياة السليمة. مع الانتباه الواعي إلى «أن الشمس تكون في بعض الأحيان مُعتمة»، كما قال الكاتب الفرنسي ألبير كامو.
لماذا دائماً نتمنى شخصيات ولدت في غير عصرنا أن تكون ولادتها في عصرنا مثل ما تمنى الأديب عبدالله زكريا الأنصاري أن تكون ولادة فهد العسكر في هذا العصر علما أن الأجساد ترحل وتبقى الأفكار. ما الذي يمنعنا أن نحاكي الأفكار ونحاول تطبيقها في عصرنا؟
- في عالم يُحكم بالقوة لا بالعدل، يشعر الإِنسان الواعي المفكِّر بالغُربة -وَإِنْ كان يعيش في بلده وبين أهله- وبالضعف أيضاً، لأنه ضاق بواقع أنه لا وسيلة أخرى لاستعادة الحقوق في عالم يُحكم بالجبروت لا بالإنصاف. فلعلّ من يتمنى بعث الشخصيات الشجاعة من جديد هو -ربما- ينظر إلى الأمور من ذلك المِنظار. ولكن «في ملَّتي واعتقادي» -كلمتي أبي العلاء المعري- فأنا لا أرى أبداً ما يحول دون أن ن شتبك مع الأفكار والمواقف ونسعى إلى تنفيذ قناعاتنا وإنجازها. ولن يتأتّى ذلك بغير التحريض على الجدل والمناقشة والتحاور والنقد أيضاً. غير أنه من المهم أن ندرك، بأن من يرغب في أن يسلك هذا الطريق الوعر عليه أن يتعوّد على الانتصارات والإخفاقات أيضاً، فإن المعركة التي عاشها فهد العسكر، مثلاً، ونعيشها الآن هي التي تدور بين الطموح البشري والظروف المعاكسة. إن علينا واجباً راهناً أن ننضم مع شاعر الهند طاغور في قوله السديد ضد طاعون اليأس ونردّد: «إذا كنت تبكي لأنك لم ترَ الشمس، فلسوف تفوتك رؤية النجوم».
من يقرأ كتابك «معصية فهد العسكر» أو كتاب الأديب عبدالله زكريا الأنصاري «حياة وشعر فهد العسكر» وأشعار، يستغرب كيف أستطاع فهد ابن الثلاثين ربيعا أن يلم بكل تلك الأفكار التي تعد سابقة على مجتمعه بل يدافع عنها بكل تلك القوة، وما تلك العقلية التي امتلكها لتحلل وتفسر وتقول؟
- لعل إحدى كلمات السر في هذا الخصوص هي «القراءة» الجادة، علماً بأن مفهوم القراءة عندي هو الذي يشبه «تجربة الترجمة» -وليس الترجمة نفسها- التي لا تسمح بأن يفلت منا أي شيء أساسي، أو حتى ثانوي، في النص والمادة المقروءة. من هنا، بدا لي صحيحاً ما ذكره طيّب الذِّكر الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري من أن غَرَق فهد العسكر بالقراءة واطلاعه المتواصل على شتى الأفكار والآراء والمواقف.. جعل تفكيره ينتعش ويتطوّر شيئاً فشيئاً مع تقدم قراءته، التي نَفَعها ما امتازت به ذاكرة فهد من قوة كانت مضرباً للمثل. ومن ثم، أخذت نظرته إلى العالم تتبدّل مع تغيّر وعيه وأسئلته، فأصبح تشدده السابق في الدين والعادات والتقاليد الموروثة يضعف، حتى تحوّل تحوّلاً كلياً في تفكيره، لأنه ليس من المعقول أن يبقى المرء على تزمّته وضيق أفقه بعدما يطّلع على شتى الأطروحات والآراء الفلسفية والعلمية والاجتماعية والسياسية.. عن طريق القراءة في كل الكتب والمجلات العديدة التي كانت تصل إلى يده في الكويت. وعبر القراءة تعلّم فهد العسكر أحد أبرز الدروس وهو إضْعاف التبعيّة لآراء الآخرين، فهي تفتح مجالات رحبة للأفكار والخواطر، وتشحذ القدرة على الحُكم، وفِي هذا تكمن طاقتها المُحرِّرة، فهي تزيد القدرة على التفكير الذاتي وإعمال التفكير الحر. وبعد ذلك، كانت جرأة قصائد ومواقف فهد العسكر قد جاءت من إيمانه الوجوديّ بذكاء عقله وبإرادته الحرة وبتطلّعه للقادم الأجمل، أو بتعبير الشاعر الكويتي المخضرم على السبتي -أحد المتأثرين بشعر فهد العسكر: «أقوى من الموتِ صوتٌ مؤمن بغدٍ».