د. إبراهيم بن محمد الشتوي
والأمر لا يقتصر على التفسير وحسب، بل يتجاوزه إلى فحص مصادر ما يدلي به صاحب الشهادة من معلومات، فنحن نعلم -مثلا- في البحث العلمي أن المصادر تنقسم إلى قسمين: مصادر أصيلة أولية، ومصادر ثانوية، وأخرى هامشية، ونعلم أيضاً أن هناك مصادر نظرية وأخرى تطبيقية تجريبية.
وفي حال الحديث عن التقارير الأمنية والاستخباراتية أو البناء عليها والاستشهاد بها في كتابة مذكرات، تصبح هذه المصادر في مرمى هدف النقاد، والمتسائلين، فهذه التقارير والوثائق كتب كثير منها في البداية لغرض سياسي (يمكن أن نضرب على ذلك مثلاً بالتقارير الاستخباراتية التي أدت إلى غزو العراق)، وهذا يجعلها تسير وفق خطة تحقق الهدف من كتابتها، وليس الصواب والخطاب هو غايتها، وتكون نظرتها للأحداث الواقعة ما يتوافق مع هذه الغاية، بمعنى أن النتيجة قد وضعت أولاً ثم بدئ بجمع المعلومات التي تساعد في تحقيق هذه النتيجة، فهي معلومات مختارة، مغربلة، منقوصة، ينطبق عليها قول الله عز وجل: «يبدونها ويخفون كثيراً منها».
ثم أن هذه المعلومات في طريقة الحصول إليها، لا تصنف في المعلومات الأولية الأصيلة المقبولة قانونياً، أو علمياً، فهي مجموعة من وسائل أحياناً غير مؤهلة على الجمع، وأحياناً ليست دقيقة في دلالتها على ما استدل بها عليه.
وأستطيع أن أضرب مثلاً بما أوردته في المقالة السابقة عن فؤاد علام، حين ذكر أن مباحث أمن الدولة رصدت «سيارة ملاكي يقودها سائق وشخص يجلس في المقعد الخلفي، نزل ودخل مباشرة إلى البيت». قال بعد ذلك: إنه تبين أنه السيد أنور السادات النائب الأول لرئيس الجمهورية.
لم يذكر علام بعد ذلك كيف تبين أنه «نائب الرئيس» خاصة وأن الوقت مساء، والطريق مظلم، ونائب رئيس الجمهورية لن يأتي بهذه الحالة الموصوفة: (سيارة ملاكي) وبدون حراسة شخصية حتى لو كان متخفياً، فهو ذو صبغة رسمية وليس رئيس تنظيم.
الأمر العجيب أنه يذكر أن هذه الاجتماعات توقفت بناء على رسالة «شعراوي جمعة»، (وزير الداخلية)، وإذا كانت اللقاءات تتم مع رئيس الجمهورية، فهل ستتوقف بناء على رسالة من وزير الداخلية؟ وإذا كانت الذي يجتمع هو نائب رئيس الجمهورية فلماذا لا يكون بتفويض من رئيس الجمهورية نفسه، لماذا يفترض أنه يقوم بعمل سياسي لصالحه، وأنه منشق عن الرئيس خاصة، وأنه يشير نفسه -علام- إلى أن تلك المحاولة تصب في سياق ما سمي بتلك الفترة -الفترة الناصرية- بالوحدة الوطنية، إذاً التواصل مع الإخوان ليس اتجاهاً خاصاً بالسادات حتى ينسبه إليه وإنما كان توجه الرئيس نفسه.
لكن يبدو أن هذه الخطوة سرعت بالعملية، وأفسدت طبخة معينة لدى المؤسسة الأمنية، جعلتها تقف ضد التحرك لدى عبد الناصر، وتفسد ما بينه وبين السادات، ما جعله يأمر بجعله «قيد الإقامة الجبرية» - كما يقول علام.
والذي يهمني في هذه الحكاية أن القول بأن الذي في السيارة «الملاكي» كان السادات نفسه، أمر لا دليل عليه لدى علام، فالموقف لم يكن يسمح بالرؤية الواضحة، وإنما هي تخمينات بناء على الشكل الخارجي للشخص الجالس في الخلف. وبناء على الصلة بين شعراوي جمعة ومحمود جامع من الممكن أن تكون هذه «الخطوة» مدبرة من الجهات الأمنية للوقوع بين عبد الناصر والسادات، بناء على الخلاف الشديد بينهما حتى يخلو لهم الطريق بعد إزاحة السادات.
وموضوع التحالف -إن صح التعبير- بين السادات والإخوان إنما تحقق بناء على ما حدث بعد ذلك من إجراءات في دعم الجماعات الإسلامية، جاءت الركبان بأطراف من أخباره تداخلت فيها التحليلات بالإشاعات، والأقاويل، وقد يكون سببه أن السادات قد صدق ما قيل عنه من قبل، ورأى أنهم الحل الأنسب بعدما تحقق لديه عدم ترحيب المؤسسات الناصرية به، ووقوفهم في وجه قراراته، فهو حادث بعد تولي الرئاسة وليس قبلها كما في الشهادة السابقة، وهو خيار صار إليه السادات بعد ما رأى موقف القوى الناصرية منه.
فالمصادر التي اعتمدت عليها الاستخبارات فيما قدمته لشعراوي غير دقيقة، تقوم على الشبه بين الجالس في المقعد الخلفي والسادات، في ظل ظروف غير مواتية للجزم بذلك، فهم لم يسمعوا الحديث، وكانوا ممنوعين من وضع أدوات تصنت في المنزل. وهذا يعطي إشارة إلى أن الاستماع إلى هذا الاجتماع قد يكشف عن معلومات مغايرة لما يظهر منه.
أياً ما يكن، فإن الوقوف على هذا النموذج يؤكد ما سبق وأن قلت عن المصادر التي تعتمد عليها الاستخبارات، في تحليلها، وإصدارها الأحكام، تقوم على الاحتمالية والتوقع وليس على اليقين والتحقق، ما يجعل الاعتماد عليها لكتابة التاريخ غير كاف، ويجب أن يؤخذ بكثير من الحذر والتمحيص.