ماذا عساي أن أقول عندما أجد نفسي عاجزًا عن التعبير عن مشاعري والحزن، والأسى يعتصر قلبي على فقد أخٍ عزيزٍ وصديقٍ وفيٍّ وأستاذٍ جليلٍ؛ إنه أخي الشيخ عبدالله بن محمد الشايع الذي انتقل إلى جوار ربه -تغمده الله برحمته-، وقد بلغني نبأ وفاته برسالة من أخي سعد بن علي الماضي، ويعلم الله مدى تأثري بفقده -رحمه الله-، ولكنها سُنّة الله في خلقه؛ فالموت نهاية كل حي، والحمد لله على قضائه وقدره، وعلينا الصبر والاحتساب.
تَعَـزَّ فـإن الصبرَ بالحـرِّ أجمـلُ
وليس على ريب الزَّمان مُعَـوَّلُ
فلو كان يُغْني أن يُرى المرءُ جازِعاً
لحادثةٍ أو كـان يغـني التَّـذَلُّلُ
لكان التَّعـزي عنـد كـل مصيبةٍ
ونـائبة بالحـرِّ أَوْلـى وأجـملُ
فكيـف وكـل ليـس يعدو حِمامهُ
وما لامرئ عما قضى الله مَزْحَلُ
وقد عرفته -رحمه الله- عندما كنت أعمل في مدينة الرياض عام 1395هـ؛ حين كانت تجمعنا بعض المناسبات الأسرية، وقد أسرني بما يتمتع به من حسن الخلق والتواضع والإقبال على محدثيه مما جعله محل إعجاب وتقدير الجميع.
وبعد أن تقاعد من عمله في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية وانتقل إلى مدينة الدوادمي التي انتقلت إليها قبله بسبع سنين، توطدت أواصر العلاقة بيني وبينه، وكانت اللقاءات بيننا مستمرة، وقد استفدت كثيرًا من منهجه في البحث واستقراء النصوص، بعد أن وجّه جلّ اهتمامه للبحث والتأليف في تحقيق المواضع والطرق القديمة، ورافقته في كثير من الرحلات لهذا الغرض، وكانت رحلات علمية ممتعةٌ وشيقة، يضفي عليها أخونا وزميلنا الأستاذ والمحقق سعد بن علي الماضي، الكثير من المتعة والفائدة؛ فهو بحق موسوعة شاملة لإلمامه بالكثير من المعارف والعلوم، خاصة علوم اللغة العربية والبلدانيات.
ولن أتحدث عن جهوده -رحمه الله- في التأليف وإسهاماته الثقافية، فكل مَن له عناية واهتمام بالبلدانيات يعرفها، وإنما سأذكر بعض ما يتمتع به من الصبر والجلد على مشاق السفر رغم تقدمه بالسن، فكانت الرحلات تبدأ في وقت مبكر بعد صلاة الفجر، وأحياناً قبلها، وتستمر طوال النهار في طرق صحراوية وعرة المسالك بين الشعاب والرمال، ولا يبدو عليه الملل والسأم، بل يمازح مرافقيه ويسليهم، وكان حريصاً على توثيق المعالم والشواهد الآثارية والآبار القديمة وأعلام الطرق والاستفادة من معلومات كبار السن، ومن طريف ما أتذكره أننا كنا في رحلة إلى نواحي هضب الدواسر لمشاهدة آثار الحمرانية العجيبة، وقد صادفنا بالقرب منها شيخاً كبيرًا وراء إبله، فاستوقفناه وحيَّاه الشيخ عبدالله، وتبسّط معه بالكلام، وكان رجلاً شهماً ألحّ علينا بتناول الطعام وإكرامنا، فاعتذرنا له شاكرين لضيق وقتنا، وقد سأله الشيخ عبدالله عن الهدف من إنشاء الشواهد الآثارية على قمم الجبال والحبال الحجرية التي تمتد من القمة إلى الأرض والركامات الكثيرة، فقال إن النبي سليمان -عليه السلام- كان يسخّر الجن في أعماله، وإذا لم يكن لهم عمل أمرهم ببناء هذه الأعمال التي ترون ثم إزالتها وإعادتها من جديد حتى يشغلهم عن الإفساد في الأرض.
ومن طريف ما أذكره أيضاً من التعليلات ما ذكره رجل صادفناه في رحلة أخرى إلى رغبا (نملى قديماً) الذي فسّر تلك المشاهد الآثارية، بأنّ بني هلال عندما سكن الهواء في زمنهم لفترة طويلة، صعدوا إلى قمم الجبال وبنوا هذه المساكن.
وعلى أية حال فإن الشيخ عبدالله -رحمه الله- قد لفت أنظار الباحثين إلى أهمية هذه الشواهد الآثارية ودلالاتها، وأنها في الغالب تحدد معالم الطرق ودلالات موارد المياه، وقد بذل الكثير من وقته وجهده في رصدها، وأصدر كتاباً عنها، وقد كان يتألم كثيرًا عند إزالة تلك الشواهد من قبل بعض الشركات من دون توثيق لها، وما تقوم به بعض شركات قطع الصخور من عبث في المعالم التاريخية وتشويه للبيئة، وقد نبّه له في أحد كتبه.
وختاماً فإن الشيخ عبدالله -غفر الله له- يعتبر مجدداً في علم البلدانيات في وقتنا الحاضر، فقد رسم له طريقاً واضحاً يعتمد على استقراء النصوص وتطبيقها على الواقع الميداني، وهو بحق منهج يساهم بالوصول إلى نتائج دقيقة.
ومهما ذكرت من مآثره -رحمه الله- فلن أوفيّه حقه عليّ وعلى أمثالي ممن يهتمون بعلم البلدانيات، فهو أستاذ في ميدانه بلا منازع، رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له الأجر والمثوبة، وبارك الله في عقبه ليصلوه بما يستحقه من الدعاء له والإحسان والصدقة.. وصلى الله على نبينا محمد.
** **
- سعد بن عبدالعزيز اليحيان