هذا أثر من آثار النجديين، عن شجرة المسلمين الأولى، وسيدة الشجر المقتنى, الوارد ذكرها تشريفاً وتكريماً في القرآن الكريم والسنة النبوية, حتى عدها بعض أهل الأدب ثالثة ثلاثة في حياة العرب : النخلة لغذائه، والخيل والجمال لركوبه، والرمح والسيف لحربه، فخر بها حسان بن ثابت - رضي الله عنه - في شعره :
لَنا حَرَّةٌ مَأطورَةٌ بِجِبالِها
بَنى المَجدُ فيها بَيتَهُ فَتَأهلا
بِها النَخلُ وَالآطامُ تَجري خِلالَها
جداوِلُ، قد تعلو رِقاقاً وجَرْوَلا
وقال الشاعر العراقي الفحل محمد مهدي الجواهري في شعره :
على النَّخْلِ ذي السَّعَفاتِ الطوالِ
على سيّدِ الشَّجَرِ المُقتنى
على الرُّطَبِ الغَضِّ إذ يُجتلَى
كوَشْيِ العروسِ وإذ يُجتنى
بإِيسارهِ يومَ أعذاقُه تَرفّث
وبالعسرِ عندَ القنى
وبالسَّعْفِ والكَرَبِ المُستجِدِّ
ثوباً « تهرّا « وثوباً نضا
وكتاب معجم النخلة, خير ما خرج للناس في هذا العهد في موضوعه ، أوفى به شيخنا الحق في أرضه، وأودع فيه علمه، وكنت زمانا يأخذني عجب شوقي من عدم احتفال أهل الأدب بالنخل في قوله :
وَأَعجَبُ كَيفَ طَوى ذِكرَكُنَّ
وَلَم يَحتَفِل شُعَراءُ العَرَب!
أَلَيسَ حَراماً خُلُوُّ القَصا
ئِدِ مِن وَصفِكُنَّ وَعُطلُ الكُتُب
سبق أدباء العراق غيرهم في الكتابة حول النخيل في العصور المتأخرة, لما عرف عن أرض العراق من وفرة النخيل فيها، ومن هؤلاء عبد القادر باش أعيان في كتابه «سيدة الشجر» الذي عني فيه بنخيل البصرة، وجعفر الخليلي في كتابه «التمور قديما وحديثا»، وعباس العزاوي في كتابه « النخيل في العراق « إلى كتاب « نخلة التمر ماضيها وحاضرها « لعبد الجبار البكر المعروف بأبي النخلة العراقية الذي زار المملكة العربية السعودية عام 1951م، وتجول في واحات النخيل في المملكة وكتب بحثا حول زيارته نشره في مجلة الزراعة العراقية بعنوان : بين واحات نخيل المملكة العربية السعودية عام 1953 م ، ولعله أول من كتب عن نخيل المملكة من غير أهلها وكتابته نحى فيه المنحى العلمي المتعلق بعلم النبات وأمراضها، فهؤلاء وغيرهم ممن جاء بعدهم قدموا للدارسين حول نخيل العراق وتمره يداً تذكر فتشكر.
وإن الناظر في تاريخ النخيل في وسط جزيرة العرب يجد ضعف الاهتمام بهذا الجانب، وعزوف أهل العلم والأدب عن تدوين شيء حول النخيل التي كانت من أجل أقواتهم ، في غابر أزمانهم، ومن عظيم شأنها لديهم أنها من أعظم ما يترك الآباء لأبنائهم فهذا شاعر أهل المدر حسان بن ثابت - رضي الله عنه - يقول :
أبلغْ عُبيداً بأني قدْ تركتُ لهُ
منْ خيرِ ما يتركُ الآباءُ للولدِ
الدارُ واسعة والنخلُ شارعة
والبيضُ يرفلنَ في القسيّ كالبردِ
وعلى قدر أهميتها لديهم ومكانتها كان من أعظم جوائحهم التي تمر عليهم المساس بها بالقطع أو بالأذى , وكان الغزاة يعمدون لذلك ويأتي هذا الفعل درجة بعد القتل للنفس , إذ كانوا يعدون ذلك من أساليب العقوبة والتأديب ولذلك شواهد كثيرة من التاريخ, قال الأعشى :
وَأيام حَجْرٍ، إذْ يُحَرَّقُ نَخْلُهُ
ثَأرْنَاكُمُ يَوْماً بتَحْرِيقِ أرْقَمِ
كأنّ نخيلَ الشّطّ غبّ حريقهِ
مَآتِمُ سُودٌ سَلّبَتْ عنْدَ مأتَمِ
وكان لنخيل ابن يامن في الأحساء شهرة عظيمة لدى العرب في جاهليتهم وفيه يقول امرؤ القيس في رائيته المشهورة يذكر حمايته لهم بأسيافهم :
فَشَبَّهْتُهُمْ في الآلِ لَمَّا تَكَمَّشُوا
حَدَائِقَ دَوْمٍ أو سَفِينًا مُقَيَّرَا
أَوِ المُكْرَعَاتِ مِنْ نَخيلِ ابْنِ يَامِنٍ
دُوَيْنَ الصَّفَا اللاَّئِي يَلِينَ المُشَقَّرَا
سَوامِقَ جَبَّارٍ أَثِيثٍ فُرُوعُهُ وَعَالَيْنَ
قِنْوَانًا مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَا
حَمَتْه بَنُو الرَّبْدَاءِ مِنْ آلِ يَامِنٍ
بِأَسْيَافِهِمْ حَتَّى أُقِرَّ وَأُوقِرَا
وَأَرْضَى بَنِي الرَّبْدَاءِ وَاعْتَمَّ زَهْوُه
وَأَكْمَامُه حَتَّى إذا مَا تَهَصَّرَا
أَطَاَفَتْ بِهِ جَيْلاَنُ عِنْدَ قِطَاعِهِ
تَرَدَّدُ فِيهِ العَيْنُ حَتَّى تَحَيَّرَا
ولإن كان امرؤ القيس مدح بني الربداء الذين حموا نخيل ابن يامن في الأحساء في العصر الجاهلي, فإن التواريخ النجدية حافلة بذكر قطع النخيل وحرقها من الغزاة, فهذا الإمام فيصل بن تركي بن عبد الله آل سعود يمدح بني تميم في وقعة الحلوة لحمايتهم لأرضهم ونخيلهم في قصيدته العامية بقوله :
أقول ذا قولي وبالرب وثاق
امدح رجالن من تميم مناعير
حاموا على الملة وقاموا على ساق
دون المحارم والغروس المباكير
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : حرَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير، وقَطَع، وهي البُوَيْرَة فنزلت (مَا قَطَعْتُم مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) وفي البويرة يقول حسان بن ثابت - رضي الله عنه -:
وَهانَ عَلى سَراةِ بَني لُؤَيٍّ
حَريقٌ بِالبُوَيرَةِ مُستَطيرُ
وبلغ من عناية العرب واهتمامهم بالنخلة أنهم وضعوا صورتها في عملاتهم الورقية والمعدنية, وكانت في العصور القديمة مهوراً للنساء, روى السجستاني أن زواجاً عقد وكان المهر فيه أربعين نخلة , وشيخنا العبودي - متعه الله بالصحة والعافية - قدم للمعنيين بتاريخ النخيل في بلادنا عملاً جليلاً كان مهملاً لدى الناس في وسط جزيرة العرب، بدءاً بما كتبه في معجمه الجغرافي «بلاد القصيم» الذي هو نواة لما في « معجم النخلة « وما حواه كتاب النخلة لعله أشمل ما كتب حول تراث النخيل وما إليها في بلاد نجد، فقد بلغت مواده ثلاثمائة وإحدى عشرة مادة.
وقد خار الله لي فسلخت فيه هلالاً كاملاً، ناظراً فيه، نظر المنجم في الميقات، حتى إذا نفذ فكري إلى ما وراء سطوره، ودخلت بينها دخول المرود بين الجفن والجفن، ومشيت بينها مشية الحكيم في الصلح بين القوم والقوم، مسامراً مواده في لياليه، قارئاً ومتأملاً ومستفيداً، فهذا المعجم مثل منجم الذهب لا تصل إلى تبره حتى تكاد تحصي ثراه عدا .
صدر كتاب شيخنا في عام 1431 في 359 صحيفة، في إصدارين أحدهما في تجليد، والآخر غلاف ورقي عن دار الثلوثية، والملاحظ أن الدار الناشرة وضعت على الغلاف صورة شجر لا تدل على فحوى الكتاب وموضوعه.
وكان من الفأل الحسن ما ذكره المؤلف في هذا المعجم (ص 9) بقوله : (جاءت مناسبة مهمة حيث قيام معرض التمور في مدينتنا الغالية «بريدة» فكان لابد لمن يستطيعون القول بالكتابة أو الحديث أن يذكروا ما عرفوه من ذلك فكان هذا المعجم تحية للتمور وللقائمين على معرضها ومهرجانها). اهـ
وقد قضى الشيخ وقام بالحق على قدر طاقته، وإني في هذه الهوامش أحاول أن أخرج من لوم الشاعر العراقي محمد الهاشمي في قوله :
ونحن قوم جعلنا التمر ميرتنا
وما قضينا لأم التمر ما وجبا
للحديث صلة
** **
- فهد بن محمد الخضيري