الوفاء فعل يمكن وصفه بالتطوعي من جهة كونه غير ملزم لصاحبه لانتفاء المنفعة بفعله أو الضرر بتركه غالبًا (المنافع المادية أعني). وفعل التطوع سجية كريمة وقيمة عليا في سجل الإنسانية، وقد عد العربي القديم الوفاء من نفيس مكاسبه لما له من دور في تخليد الذكر وتوريث السمعة الطيبة، في مجتمع صحراوي لا يقيم شأنًا للغنيمة المادية إزاء الظفر المعنوي الذي يسهل لأجله بذل النفس رخيصة في سبيل رفعة الرجل وعشيرته وأهل بيته. وكلنا يتذكر الحكاية الشائعة عن عمر بن الخطاب وأبي ذر والفتى الذي قتل شيخًا فحمله أبناؤه مخفورًا إلى الفاروق الذي استقر له الفتى بجريمته ليحكم عليه بالقصاص. لكن الفتى التمس مهلة ليتدبر شؤون أسرته في البادية ويودعهم ثم يعود لمواجهة مصيره، وهنا طلب عمر منه ضمانات فلم يكن لديه ضمانة حتى كفله أبو ذر وهو لا يعرفه، ثم ذهب الفتى وعاد في وقته، فعفا عنه أهل الدم لموقفه هذا، وكان جواب الفتى عن سبب عودته لمصيره المحتوم: «حتى لا يقال: ذهب الوفاء بين الناس». وبقطع النظر عن صحة الحكاية من عدمها، فهي صورة صادقة لما كان عليه العربي من خلق رفيع يأبى عليه الرضوخ للمغريات مقابل أن يخل بوعده. وقد ضربت العرب مثلًا بوفاء السموأل خلد ذكره إلى يومنا، ليكون وسيلة لترميم ما انتاب الناس من سوء في أخلاقهم ضريبة للمدنية والتطور المادي.
أما الشعراء العرب من أقدم العصور، ومنذ عادت العلاقة بينهم وممدوحيهم نوعًا من العقود المصلحية التي لا تعترف بسوى المنفعة؛ فأمرهم موكول بصرة الدراهم التي يقبضونها نظير استحالتهم أبواقًا خاوية من كل قيم الصدق والعدالة. لقد رصد التاريخ مواقف مخجلة للشاعر المداح الذي لا يتوانى في سبك الأغاليط لصالح ممدوحه، ولربما ساقته الأقدار للمثول أمام مهجوّه القديم ليعود فيمدحه بذات القيم الزائفة التي دبجها في مدح عدوه. الشاعر الكساب لاقط عيش أينما تكون الدراهم تجده بأسماله وأحماله، ولا ملامة عليه أمام نفسه ما دامت هي لعبة الحياة حوله وعليه أن يجيدها أو بقي في إسار الفاقة والوضاعة حتى وإن كان من فحول الشعراء.
أبو تمام والبحتري وحتى المتنبي، لولا قصور الخلفاء ودواوين الأمراء ومجالس الوجهاء ربما ما بلغوا معشار ما بلغوه من حسن المعيشة أو الشهرة؛ فأبو تمام كان يبيع الماء على باب المسجد، والبحتري يتعرض بائعي الخضرة في الطرقات ليمدحهم على دراهم يتقوت بها، والمتنبي -على جلالة قدره - لولا صحبة سيف الدولة ظل المختل الذي ادعى النبوة، ولربما أوصلته حدته لحبل المشنقة بتهمة الزندقة أو غيرها كما حصل لغيره.
لكن هناك نماذج مشرقة لشعراء لم يصرفهم تبدل حال ممدوحيهم عن أن يظلوا لهم أوفياء كأنما لا يزالون في بلاطاتهم وحول موائدهم. فهذا ابن شهيد الأندلسي، الكاتب الأديب الظريف، الذي بقي وفيًا للعامريين أصحاب قرطبة بعدما انحسر ظلهم، رغم حجم التقلبات التي لحقت بقرطبة منذ فتنة البربر وتدمير المدينة وتوالي الانقلابات. والواقع أن القارئ في سيرة ابن شهيد يدرك سر تشبثه بالعامريين؛ فوالده من وزراء الحاجب المنصور وندمائه، وتحكي الروايات كيف أن ابن شهيد وهو طفل صغير كان يدخل على حريم المنصور بلا كراهة، وتلاطفه زوجته وتكرمه ولا يخرج إلا بالمال والهدايا، وهو موقف طبع في نفس أبي عامر محبة بني عامر والوفاء لهم طيلة حياته. لقد ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، في كنف السياسة ورعاية الملك، ولا أعلم لماذا يتراءى لي عند ذكره أمير الشعراء أحمد شوقي الذي ولد بباب الخديوي إسماعيل وفي فمه ملعقة من ذهب فنال مالم ينله سواه من الكرامة والتقديم، ليغدو سيفا صارم اللسان للخديوي وأبنائه، وهو ما دفعه للقول في الوفاء لهم:
أأخون إسماعيل في أبنائه وأنا ولدت بباب إسماعيلا ؟!
على أن شوقي بعد ذلك تبدل به الحال لينقلب وفاؤه ضدًا، لكني وقفت مع اللحظة لا مع السياق الكامل.
وفي الأندلس أمثلة أخرى لعل أعظمها شعراء المعتمد بن عباد، وقد كانوا من ندمائه ومقربيه. وإذا استثنينا ابن عمار مثلا الذي انقلب على صاحبه المعتمد بعد أن انتشله من زوايا الأزقة وقوارع الطريق؛ فهناك غير اسم من شعرائه الذين احتفظوا له بصادق المودة بعدما انهار ملكه وانحسر عطاؤه. هذا ابن اللبانة الداني، الذي اجتاز إليه مادحًا ومواسيًا ليضرب أعظم صور الوفاء تجاه صاحب نعمته القديم، بل لقد صنف في بني عباد مصنفًا يخلد فيه ذكرهم ويشيد بمآثرهم. والواقع أن هذه الحادثة مثيرة للاهتمام، فما الذي يدفع شاعرًا من الأندلس أن يتجشم العناء لزيارة أسير في قلعة منزوية على بعد أربعين كيلا من مراكش يرسف في القيد فقيرًا معدمًا، وأهم من ذلك أنه لا رجاء أبدًا في أوبة ملكه، أو عودة سلطانه، وهو الذي لم يجد بدًا من الموافقة على استئذان ابنته بثينة للزواج من ابن تاجر في إشبيلية بيعت له جارية، وبالطبع لم يت مكن من حضور زواجها والغالب أنه لم يرها بعد ذلك.
إنه مرام عسير، ثالث المستحيلات: الغول والعنقاء والخل الوفي؛ رغم أنه من الواقع والآخران من صميم الخيال.
** **
- صالح عيظة الزهراني