د. عبدالحق عزوزي
احتجاجات أصحاب البذلة الصفراء في فرنسا تذكرني بنتائج أعمال البروفيسور جيجوش دابليو كولودكو وهو اقتصادي وسياسي ومفكر كبير، وأحد المهندسين الرئيسيين للإصلاحات البولندية... كان قد ألف كتاباً كبير الدلالة كثير الفائدة تناول حقائق وأخطاء وأكاذيب الاقتصاد في عالم متغير؛ وتعمد هذا البروفيسور البولندي أن يخلو كتابه من الجداول والرسوم البيانية والخرائط كي يصبح أكثر جاذبية للقراء.
وحسب الخبير البولندي، فإن مفاهيم علم الاقتصاد الصعبة تفسر أفضل تفسير باستخدام كلمات بسيطة ومعبرة؛ ويفترض أن يصف علماء الاقتصاد ما يجري ويفسرونه. وأفضل هؤلاء العلماء يعرفون ما يحدث وبإمكانهم إقناعنا؛ لأن المشاكل تطرأ عندما:
- يكونون على علم بما يحدث، لكنهم لا يستطيعون إقناعنا.
- أو لا يعلمون، ولكنهم يحاولون إقناعنا على أي حال.
- أو يعلمون أن حقيقة الأمور تختلف كما يحاولون إقناعنا به.
لقد كتب الكثير عن كيفية تضليل الناس بالعلم، وكيف يتمكنون من أن يصروا على الخطأ فترات طويلة واضعين ثقتهم في هراء وخزعبلات، ولكن نادراً ما كتب حول هذا الموضوع في مجال الاقتصاد. وأظن أن كتاب الخبير كولودكو واحد من المراجع النادرة في هذا الباب؛ فالاقتصاد في نظره يسلك مساراً وسطاً بين الخيال كما تراه في الأفلام السينمائية؛ وبين الدقة الموجودة في العلوم البحتة وكلما اقترب علم الاقتصاد للدقة كان ذلك أحسن؛ والأفضل على الإطلاق هو الجمع بين دقة الرياضيات وتشويق الأفلام السينمائية. وقد نصح أحد الأصدقاء الخبير كولودكو بتأليف كتاب ضخم يحوي الكثير من المعادلات بحيث لا يفهم أي شخص أي شيء، فحفظ كولودكو هذه النصيحة القيمة وقرر أن يفعل العكس بألا يضمن كتابه أية معادلة وأن يكتب بحيث يفهم الجميع...
عندما زار ألبيرت أينشتاين الولايات المتحدة للمرة الثانية سنة 1931، قبل أن يستقر هناك لاحقاً بعد عام واحد، طلب أن ينال فرصة مقابلة رمز عظيم آخر من رموز القرن العشرين هو تشارلي شابلن. وبعد عرض لرائعته «أضواء المدينة» صفق الجمهور لكلا الرجلين العظيمين، وقال شابلن: «إنهم يحيونني لأنهم جميعاً يفهمونني، ويحيونك لأن أحداً منهم لا يفهمك»..
إن المشكلة في علوم الاقتصاد -على عكس بعض العلوم الأخرى كالطب أو الهندسة الزراعية أو الفيزياء- ليست علومًا تجريبية في الأساس؛ فلا مكان لمختبرات اقتصادية تكون محطة تقام فيها التجارب لدراسة صحة الفرضية أو بطلانها، بل عادة ما تعلن الفرضية أولا ثم لا تظهر ملاءمتها إلا فيما بعد. واتباع هذه الطريقة للوصول إلى الحقيقة مكلف للغاية؛ ونرى نتائج ذلك مثلا في فرنسا مع السياسات الاقتصادية والمالية والضريبية لحكومة الرئيس ماكرون، حيث قتل أربعة أشخاص وأصيب المئات على هامش التظاهرات التي انطلقت في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر، واتسعت لتشمل الآن التلاميذ والطلاب والمزارعين؛ كما أغلق المتظاهرون الذين يرتدون السترات الصفراء والتي يتعين على جميع سائقي السيارات في فرنسا حملها في سياراتهم، الطرق السريعة في جميع أنحاء البلاد بحواجز محترقة وقوافل من الشاحنات بطيئة الحركة مما عرقل الوصول إلى مستودعات الوقود ومراكز التسوق وبعض المصانع.
وعلى الرغم من دعوات الحكومة إلى التهدئة، فقد امتدت احتجاجات السترات الصفراء إلى الأراضي الفرنسية في الخارج، بما في ذلك جزيرة لاريونيون في المحيط الهندي، حيث أضرمت النار في السيارات...
ويعارض المحتجون الضرائب التي فرضها ماكرون على البنزين لتشجيع الناس على الانتقال إلى وسائل نقل أكثر ملاءمة للبيئة. وعلاوة على الضريبة، عرضت الحكومة حوافز لشراء سيارات كهربائية أو صديقة للبيئة. وتمثل الاضطرابات معضلة لماكرون الذي يصور نفسه بطلا في مواجهة تغير المناخ لكنه تعرض للسخرية لعدم تواصله مع الناس العاديين في وقت يقاوم فيه تراجع شعبيته..
الرئيس الفرنسي الشاب بعد عدة ساعات من خطاب رئيس الوزراء أمام الجمعية الوطنية الذي قرر خلاله استعداد الحكومة للتخلي نهائيًّا عن زيادة الضريبة على المحروقات، أكد مساء الأربعاء الماضي عن إلغاء الزيادة للعام 2019. فهم إذن الرئيس ماكرون خطأ القرارات الاقتصادية والاجتماعية التي تمس جيب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وأظن أن كل الأنظمة الأوروبية ستأخذ قرارات شبيهة بل واستباقية في مجتمعات لم تعد تقبل حسب تعبير البروفيسور جيجوش دابليو كولودكو في كتابه تضليل الناس في مجالات تمس حياتهم المعيشية.