إبراهيم بن سعد الماجد
القبيلة والركون إليها لم تكن يوماً من الأيام أمراً معيباً، بل كان مما عضّد للأنبياء في دعوتهم، ومنحهم في ظروف معينة منعة وقوة.
قالوا يا شعيبُ ما نفقهُ كثيرًا مّمّا تقولُ وإنّا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطُك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز)
لم يكونوا يفقهون ما يقول، لا جهلاً منهم بقوله، ولكن بغضاً لما جاء به، ولم يمنعهم من إلحاق الأذى به إلا كونه من رهط يخشون لو آذوه أن يؤذوهم.
وفي قصة نبي الله صالح عليه السلام ما يوحي بأهمية القبيلة (وكان في المدينة تسعة رهط).
وفي قصة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وموقف عمه أبو طالب من ابن أخيه عصبية قبلية لا دينية وقد قال (والله لن يصلوا إليك بجمعهم، حتى أوسد في التراب دفيناً).
هذا يؤكد على أن العصبية القبلية ليست شراً محضاً، بل فيها من الخير الشيء الكثير، إذا ما كانت حسب ما جاء به الإسلام، وما وضعه من ضوابط تكفل أن تكون منعتها في سبيل عزة الإسلام ومنعته، ومنع الظلم والظالمين.
أما أن جاءت كما يقول الشاعر العربي:
وما أنا إلا من غزية ان غوت
غويت وان ترشد غزية أرشد
فهذا ما أبغضه الإسلام وحذر منه أشد التحذير.
روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى».
نبي الله لوط لما أحس بخطر قومه على ضيوفه وخطر أن يفعلوا بهم ما حكاه القرآن الكريم فقال عليه السلام (قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد).
أحس بأهمية القبيلة التي تكون مانعة له من أن يقع به أو بأضيافه ما يمكن أن يكون معيباً له.
كل هذه الأحداث التي تدل على أهمية القبيلة جاء الإسلام ليؤطرها في إطار العدالة والحق، لا ساحة الاعتداء والتفاخر والتنابز بالألقاب.
فكان فخر الرجل بقومه واعتزازه بهم بما يملكونه من رصيد أخلاقي كالكرم وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم.. هذا المظلوم الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فقالوا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً فقال عليه السلام: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه.
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم للمدينة المنورة مهاجراً بدأ في تأسيس أول دولة عرفها العرب، هذه الدولة لم تكن قائمة على عصبية قبلية، بل كانت قائمة على أسس بناء مؤسسة حكم رشيد لا يفرق بين شخص ولا آخر ولا بين قبيلة وأخرى، فالكل سواسية يرفعهم قربهم من الله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وبالتالي فإن أحقكم بالإدارة من يملك التقوى والقوة التي تعينه على أداء دوره المناط به، ولذا اعتذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابي الجليل أبي ذر في أن يوليه (فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.
وفي العصر الحديث تبرز الدولة السعودية (المملكة العربية السعودية) فقد كان تأسيسها تأسيساً مؤسسياً لا قبلياً، فلم يسجل التاريخ أن المؤسس بحث عن أعوان لإدارة هذا الكيان من داخل قبيلته أو أسرته، بل كان البحث عن الكفاءات هو الأساس، ولنا أن نلحظ تولي بعض القيادات لبعض المناصب المهمة في الدولة وهم لا ينتمون إلى أي من القبائل الكبيرة المعروفة، بل ليس لهم تمدد أسري في المنطقة، فما شفع لهم إلا علمهم وحسن إدارتهم.
نقول ذلك عن المملكة العربية السعودية، الدولة العربية التي تحكم شبه الجزيرة العربية، وفيها يقطن مئات القبائل العربية الأصيلة، ونرجع ذلك إلى أن تأسيس هذه الدولة قام على ما قامت عليه أول دولة في الإسلام، دولة المدينة المنورة التي أسسها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، فقد كان تأسيس هذه الدولة على كتاب الله وسنة رسوله، ولذا نقرأ في كتب التاريخ ونسمع من الرواة توقف ورجوع الملك عبد العزيز -رحمه الله - عن أي أمر مضى فيه عندما يعترض عليه كبار العلماء أمثال الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله -ويتبين له أنه مخالف للشرع.
اختم بما بدأت به وعنونت به هذه المقالة (القبيلة والدين....) لأؤكد على أن القبيلة في الإسلام لم تكن يوماً إلا مصدر قوة ومنعة لأهل الإسلام، وحامية له ومدافعة عن أهله، فالقبلية -بصفة عامة- لا تُذمُّ فهي قدرٌ كوني، فالله تعالى هكذا خلق عبادَه شعوبًا وقبائل، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
والقبلية تصنع -في كثير من الأحيان- نوعًا من الوحدة بين أبنائها؛ فإذا ارتقى هذا الفهمُ الوحدويُّ القبليُّ إلى وحدةٍ أسمى منها هدفًا ونوعًا، وهي وحدةُ الأمةِ الإسلامية، كان ذلك تمهيدًا لوحدة المسلمين وهي بلا شك غاية منشودة وهدف مطلوب السعي إليه بكل السبل النبيلة.
نقطة مهمة يجب أن أنبه عليها وهي أنه لا يوجد إِنسان على وجه البسيطة لا ينتمي إلى قبيلة جهل ذلك من جهله وعلمه من علمه.