د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في المقالات السابقة، ألقي الضوء على اكتشاف الذهب في مدينة سكرامنتوا بولاية كالفورنيا على يد رجل الأعمال السويسري الذي أفلس ثم ذهب إلى هناك ليكون إمبراطوريته، ويكتشف تبر الذهب الذي ينساب على هيئة شذرات عبر النهر، ويكون ذلك الاكتشاف وبالاً على تجارته، وفي أستراليا اكتُشف الذهب على يد هارغريغر، بعد أن أدرك بفطنته التشابه الجيولوجي بين ماهو موجود في موقع سوتر في بأمريكا، وبين ماهو موجود في أستراليا، وكان للذهب واكتشافه قصة في جنوب أفريقيا، على يد جورج هارسون، وجارته الأرملة، ومن ثم شركة أفريكان جولد، واستخدامها للسيانيد، ومن ثم ترسيب الذهب بالزنك، ونهايتها المؤسفة بسبب طمعها.
في ظل الحديث عن الذهب حري لنا أن نشير إلى سيدة عاشت قبل آلاف السنيين من ذلك الاكتشاف، لها علاقة وحب وهيام بالذهب، وهي سيدة عاشت في مصر الحضارة، مصر التاريخ الخالد إلى يومنا هذا، مصر التي مازالت حضارتها شامخة لتكون شاهداً على ما أنجزه أبناؤها عبر التاريخ.
كان الذهب في العصر الفرعوني رمزاً للرخاء، وللزينة، وحتى للقدسية، حيث يستخدم في صنع آلهتم التي كانوا يعبدونها، ويزينون تلك التماثيل بكميات كبيرة من الذهب متقنة الصنع والتصميم، كما كان الذهب قي كثير من مراحل الحضارة المصرية، امتيازاً للملوك، لايتزين به سوى الفراعنة، وربما أن ذلك الامتياز، قد أدى بهم إلى إطفاء الصفاء والغرور، مما جعلهم يرون في أنفسهم شيئاً من التأليه.
لقد كانت صياغة الذهب فناً رفيعاً لدى الفراعنة ونموذجاً لإظهار الجمال والقوة والرخاء، وهنا تبرز ملكة فاتنة من ملوك مصر القديمة، وهي غنمت حتشبسوت ابنة تحتمس الأول، وهو أول فرعون دفن في وادي الملوك في طيبة سنة 1482 قبل الميلاد.
لقد تزوجت هذه الملكة أو الفرعونة كما هو اللقب السائد على أخيها غير الشقيق تحتمس الثاني، لكنها لم تنجب ذكراً بل بنتاً، وتزوج زوجها تحتمس الثاني وأخوها في نفس الوقت من أحد وصيفات القصر، فأنجبت ذكراً، هو الملك تحتمس الثالث، ولهذا كان طبقاً للقوانين السائدة آنذاك هو المرشح للملك بعد أبيه.
بعد وفاة أخيها والذي هو زوجها في نفس الوقت، أصبحت وصية على الملك الصغير ابن أخيها وزوجها، لكنها لم تكن لتترك الملك له، فبعد فترة من الزمن، أخبرت الكهنة أنها قابلت الآله في المنام، وحلمت أنهم أمروها أن تكون هي الملكة، فوافق الكهنة، وأصبحت أول سيدة تكون فرعونة في مصر للسلالة الثامنة عشر، ولكونها امرأة حلت مقام رجل، حاولت جاهدة أن تظهر بمظاهر الرجال، في لباسها، وكانت تشير إلى نفسها بضمير المذكر، ومع أنها تحمل ثمانين لقباً إلاّ أنها لم تطلق على نفسها «الثور القوي» التي كان الفراعنة يطلقونه على أنفسهم.
في العصور التي سبقها، وعندما كان الهكسوس يحتلون مصر، وهو العصر الذي عاش فيه نبينا يوسف عليه السلام ولذا فإن القرآن الكريم كان يطلق اسم ملك وليس فرعون على حاكم مصر، بينما في زمن نبينا موسى عليه السلام كان يطلق اسم فرعون، وهو ما جاء في القرآن الكريم، وهذا دلالة على إعجازه، في عهد الهكسوس كانت التجارة قد ضعفت في زمنهم، فجاءت هذه السيدة الحاكمة لتعزز الحركة التجارية، مع كل من فلسطين وكريت وسوريا، وتصل بها إلى أعلى درجاتها.
كانت للفرعونة حتشبسوت ولع بالذهب، لهذا فإنها توسعت في التنقيب عن الذهب، وتجاوزت منطقة النوبة للتعمق جنوباً، وكانت تطلي وجهها بتبر الذهب والفضة، وكانت مولعه أيضاً بالبناء والتشييد، لهذا فعندما قررت أن تبني صرحاً لصنمهم أمون راع الذي يعبدونه، كان تصميمها الأساسي أن يكون هناك عمودان من الذهب يمكن رؤيتها من فوق أبنية الكرنك ويطول مائة قدم، لكن خبراء العمارة لديها قالوا إن ذلك يكلف الكثير، وافقت على بنائه من الجرانيت على أن يغطي تاجي العمودين بالذهب، وقالت: ( إن ارتفاعها يخترق السماء.... عندما تشرق الشمس بينهما، يغمر النور الأرضين.... أنتم يامن سترون النصبين بعد سنوات طويلة.... ستقولون لانعرف كيف أمكن لهم أن يصنعوا جبلين كاملين من الذهب) وكأنها تقول ما قاله بعدها بقرون فرعون مصر في زمن نبينا موسى عليه السلام : (ياهامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب)، ولكن وزيرها اسمه سنموت، وهو الذي قام على تربية ابنها، وأدار شؤون مملكتها، وأصبح له شأن يوازي شأنها، كما تلقب بثمانين لقباً مثلها، وجفوة حدثت بينهما جعلتها تتخلص منه.
كان الذهب منذ آلاف السنين وفي مصر القديمة يجلب من جنوب مصر والنوبة، وكانوا يسمونه نب، وهذا ربط بين مسمى الذهب و النوبة، ومنه جاء ذهب في العربية، والحقيقة أن المصريين كانوا يستخدمونه كعملة وللزينة منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، أي ما يقرب آلاف سنة منذ زماننا هذا.
لم يكن استخراج الذهب من المناجم في النوبة وغيرها سهل المنال، بل كان يتطلب جهداً هائلاً، وعدداً غير قليل من البشر، وكانت المداخل ضيقة، والظلام الدامس يغطي كل زاوية، ولذا كان على كل عامل حمل شمعة بيده والزحف على ظهره أحياناً ليتمكن من الوصول إلى ذلك المعدن اللامع، ولم يكن هناك كمية من الأكسجين كافية في بعض الأماكن لتغطية تنفس البشر، وحاجة الشمعة الضئيلة للاحتراق، مع رطوبة عالية، وربما مياه جوفية، هذا إذا لم يكن هناك انهيار للتربة، لهذا فقد كانت الفرعونة تحرص على جلب العبيد من خلال الحروب، للاستفادة منهم في هذه المهمة الشاقة، وكان يقوم على حراستهم أقوام لايحسنون لغتهم حتى لايكون هناك اتفاق وتسهيل مهمة هروبهم.
لقد عشقت هذه السيدة الذهب، وبذلت من أجله المال الكثير، ومات لأجله عدد غير قليل، وربما قامت الحروب لجلب العبيد، لكنها أبقت صروحاً أثرية خالدة.