د. خيرية السقاف
المروق عن القانون في عرف النظام مفسدة، ومن المفاسد ما لا يُبرأ منها..
في هذه الحال تستفحل الحلول فيطرد المرء في منأى عن مأواه..
يتيه في الأرض مذ بدء العلاقة المنظمة بين الناس فوق ثرى الأرض، يتقاسمون موارد الماء والعشب، ويقتطعون منازلهم من فسحة مداها..
غريب هذا المنبوذ، وحيد قد تتفاقم به غربته جراحًا تنز، وفاقة تحل، ووحدة تهيمن..
ويجد مُؤويه، يلملم جراح بؤسه، ويخرجه من جحيم ذنبه، ويبسط له حاضره!..
حتى اسمه يمنحه، وحتى ماضيه يطمسه، ربما يذوب في انتمائه إليه انتمائه لمن كان منه..
هذا المنبوذ مهاجرا، غريبا،
لكنه ليس كالطير يملك لجناحيه وجهة المسار، ويؤوب لمراتعه حين اشتهاء..
هو كالجلمود الذي يقذف بعيدا، فيستقر بثقله، حيث ينزل مثقلٌ بوزنه، محمَّل بأسبابه..
تتراكم فوقه الأتربة، تعبر به العواصف، تمسح الريح عليه، ومن الماء ما يساقط زخات في عبور سحابة، أو سقيا في هطول غيث، أو غمرا في وابل مطر، فإما ينصع من عوالق ما فيه منتشيا بالطهر، وإما يُغمر في سيل خيباته فلا يكاد يبين..
الهجرة عن نبذٍ غربة قاسية..
فكيف هي هجرة الحاضر؟!..
كيف هي غربته الساحقة، في الزمن العامر، الغامر، المتنامي، المُتكاثر، المتقارب، والمختَصِر للإنسان المسافةَ، والمضمونَ؟!..
بيد أنه في الوجه المظلم للإنسان الآن هو زمن الهجرات، واختلاف وجوه الغربة..
لماذا؟!، ربما الخلي من الذنب يُبعد، والمكلوم من الظلم يبتعد، والهارب من، ومن، ومن يهاجر، يغترب، يرحل..
لكن إلى أين، وكيف؟! هنا المحك، والمحطة..
على الحدود يطرد المهاجر فيقف في الزحام عطِشا جائعا، وقد يكون عاريا، مزقت ما عليه من كساء أمواج عتية، أو أتربة جارحة، أو منافٍ موحشة، حتى إذا ما وصل عند منافذ النجاة صُلبت قدماه ينتظر إشارة عبور ليضع رأسه ولو على غصن نبتة جافة في درب ما، ليرشف قطرة روية وإن تقطرت عن شق في صفيحة مهملة..
عجب أمر المهجَّرين اغترابا، المنبوذين عنوة، التائهين في وقت كل العالم يدعي الحضارة، وحقوق الإنسان، والإنسان غريب..
تسن لهجرته قوانين القبول، والرفض، ويشد على رقبته حبل مشنقة النبذ، وتحزُّ خاصرته بحدِّ مقصلة اللا انتماء، ويُمزق وجدانه بنهش ظلمة الضياع، وتجرَّح كرامته هلامية هويته!..
أي إنسانية وجزيرة نائية لا حياة فيها ستأوي إليها قلوب تخفق، وأرواح لا تزال تتنفس،
أي إنسانية وأطفال يهجَّرون وفي الطرق الموحشة يموتون، وكبار قادة العالم بين أيديهم مصائرهم..
لا مرعى فيرعون، ولا مورد فيسقون، ولا مأوى فيُحضنون، وإن وجدوا فنفوسهم في صناديق الأسى تتمرغ، وكرامتهم في مقابض النبذ تحتنق، وعلى جمر الوحشة تصطلي كوامنهم الدفينة، وتهطل بحور عيونهم الحارقة..
غربة الملاجئ، والمناطق العارية، والنزول في الأدوار الدنيا من المجتمعات
غربة قاتلة للإنسانية، فأي غربة، وأي ميتة هذه التي تلم بالإنسان التائه في العراء؟!
فسلام أيها المغتربون المُهَجَّرون في أصقاع الأرض بكم على الإنسانية،
سلام بكم عليها في زمن فرغ منها، واكتوى بوحشة غربتها..
أجل فالمهجَّرة هي، والمغتربة هي،
هذه الإنسانية المدَّعاة!!..