مها محمد الشريف
مفكر الأنوار وفيلسوفها جان جاك روسو من ملهمي الثورة الفرنسية بكتاباته في الفلسفة السياسية والأخلاقية، ومن أهم كتبه العقد الاجتماعي، ويذكّر هنا روسو بأساس الميثاق الاجتماعي، وهو الملكية وشرطه الأول هو أن ينعم كل واحد في سلام بما يملكه، مفنداً أن هذا الالتزام لا يضر باللقانون الأساسي للدولة، على اعتبار أن الذين يدفعون الضرائب يعترفون بصدق الحاجة إليها.
ولكنه يرى أن هذا الإسهام كي يتصف بالشرعية، لا بد أن يكون إراديًا لا جبرياً، ويجب أخذ موافقة كل مواطن كما لو كان يسهم فقط بما يحلو له، ويعتمد هذا التوافق أو القرار على تعدد الأصوات أو بالإجماع، فالثورة الفرنسية قد أحدثت في مصائر الجماعات والتاريخ عهداً جديداً، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن قد أنعشت ذاكرة الشعوب بالقواعد الحقة للنظام الاجتماعي، وأن نسيان هذه الحقوق وتجاهلها تعد من الأسباب الرئيسة للمصائب العامة ولفساد الحكومات لأنها كانت تتعمد أن تقضي حقوق النوع الإنساني باسم فرنسا. وهذه رؤية لا زالت متواترة من روسو إلى «برتلمي سنت هيلار».
لقد نقلت الفضائيات عبر وسائلها المختلفة حجم المواجهة العنيفة بين قوات الأمن الفرنسية، واستمرار احتجاجات الكونفدرالية العامة للشغل باتخاذ إجراءات تدعو للتعبئة والتظاهر لحركة السترات الصفراء المحتشدة أمام مبنى الجمعية الوطنية في باريس وفي شارع الشانزليزية السياحي، لاسيما أن التجمعات البشرية هي في الغالب من عمل الطوارئ، ويُقال عنهم المحتجون والمطالبون بزيادة الرواتب والمساعدة الاجتماعية وتخفيض أسعار الوقود والضرائب والسياسات الاقتصادية التي يتبعها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وتداول هذه الفصول رائجة منذ الأزمان السابقة في فرنسا، فقد كانت الأحداث مشابهة في عهد الزعيم الأسبق مؤسس الجمهورية الخامسة، الجنرال ديجول، إلى ثوار الجزائر عام 1968، عندما قال لهم : «فهمتكم»، ثم استخدم بعدها كل أدوات العنف لقمع الثورة والثوار، قبل أن يدرك أن الحل الوحيد يكمن في قبول فرنسا بالرحيل عن الجزائر ومنحها استقلالها.
فقد كانت كلمة الرئيس الحالي ماكرون على وزن كلمة الجنرال السابق «أنا سمعتكم» كحل من الحلول لمعالجة الأحداث المحتدمة في الشانزليزية بالعنف والضرب، وبحسب مجريات الأحداث قال عنها الساسة إن الخبرة السياسية لماكرون لم تكن بحجم مواجهة أحداث كبيرة كتلك الأحداث العنيفة في كبح جموح المتظاهرين، ولم تتحول الأعباء الضريبية إلى لوائح من التدابير المفيدة أكثر منها جبي لفوائد وهمية.
ويجدر أن تكون المعادلة بين سعر الأشياء والرسوم المفروضة، كمن تُفرض على المشتري وليس على البائع، وهذا ما يجري في خطوات المعادلة لتخفيف الأعباء عن الفقراء ويتحملها الأكثر ثراء. ولكن بعد أن ألغى ماكرون الضرائب عن الأثرياء عمَّت الفوضى واستخدامت الشرطة القوة تغيرت الطريقة المستخدمة من أجل الحفاظ على الأمن. بعدما شهدت العاصمة الفرنسية أسوأ أعمال شغب بمناطق سياحية مخلفة عددًا كبيرًا من الضحايا والمعتقلين.
وللسبب نفسه يقول روسو: «لن تتأذى الصناعة من نظام اقتصادي يثري مالية الدولة، مع التخفيف على الشعب»، ونضيف إلى كل هذا بأن العداوة بين الشعب والحكومة، تكوّن مصدرًا دائمًا لنتائج وخيمة، في حال استمرار الاضطرابات المنتهية بالعنف المتبادل بين الشرطة والمتظاهرين، والذي يعكس الهوة المتسعة بين النخبة الحاكمة والشعب، ويدفع إلى تآكل مكاسبها ومداخيلها ونقص في نفقاتها مما يؤثر على خزينة الدولة مع خلق نشاطات دخيلة تمتص كل الفضائل.