عبده الأسمري
يطلق الإنسان من جهازه العصبي يوميًّا آلاف «المفردات» والعبارات التي تؤول بين المفيد الذي يثري الزمن، وينعش المسمع، ويلبي الفائدة.. والفارغ الذي يستقطع «الوقت»، وينهك «الفؤاد»، ويداهم «الروح»..
قد يتعانق الحديث كثيرًا في تواصل البشر اللفظي مع ذرات الهواء؛ فيتجه نحو «الضياع» عندما يكون بلا قيمة وموجهًا نحو إهدار المجهود القولي والجهد العقلي. وقد يتم ضبطه فتكون نتائجه حاضرة في الاستماع والإنصات والفهم والاستيعاب والإيجابية..
نسمع كثيرًا عن «حديث ذي شجون»، ولكننا نغفل أن هناك «حديثًا ذا جنون»، وآخر ذا شؤون، ونوعًا ذا متون.. وكلها تتعلق بالمنصة التي انطلق منها.. وقد لا يعي الكثير انعكاسات «الأحاديث» اليومية على نفس الإنسان وروحه وجسده. فالكلام الدارج يوميًّا المنطلق بين مثيرات واستجابة جزء من العيش، وركن من التعايش.. فمن الحديث تنطلق السلوكيات، ووسط مفرداته تتجلى الشخصيات.. فمتى ما ارتبط الحديث بنفس نقية، تجيد محاسبة «الذات»، تظل النتائج باهرة زاهرة بالنتائج المفعمة بالحق والمنطق والجمال والاستدلال بقول نافع، يتجه إلى فعل شافع.
وإذا ما ظل الحديث واردًا من نفس هائمة ومتشكلة وفق أهوائها فستكون نتائجه خاسرة خائبة مذيلة بالباطل والفشل والخذلان والتخاذل..
الحديث أسلوب حياتي، وأداء نفسي، وعطاء بشري، يشكل عنوان الإنسان، ويُظهر قيمته في ميزان التعامل.. فالقول يسبق الفعل في اتساق مرتبط بمكامن النفس وخارطة معاملاتها..
في دستورنا العظيم «القرآن الكريم» توجيهات فوز، وموجهات انتصار، وعناوين نجاة، ومكملات رقي، وتفاصيل نبل، ومعانٍ حسنى من خلال الكلمة الطيبة والقول الحسن واللفظ الجميل.
بين الاستهلاك والهلاك يقضي البشر حياتهم في حصيلة يومية بائسة من الأحاديث والأقوال عندما تغيب محركات «التحكم الذاتي»، وتختفي معالم الرقي الإنساني..
الحديث هو نقطة الحوار، ومنطلق التفاهم، ومكمن التعامل بين الناس وسط معاملات وابتلاءات وامتحانات حقيقية.. فتبين الفروق الفردية بين الأحاديث، وتتباين مؤشرات المعرفة، وتختلف محكات التطبيق؛ فيظل البشر في ذلك وسط مراتب ما بين قيم الذات، وتقييم الآخرين.
لو جرب كل إنسان، رجلاً أو امرأة، أن يضع له رصدًا تجريبيًّا في يومه حول معدلات حديثه، ومن ثم إجمال نتائجه نهاية يومه، لوجد العجائب من الخطايا ومن الحيل الدفاعية التي ينطقها لسانه وفق تحركات داخله..
أتمنى أن نسأل أنفسنا سؤالاً يوميًّا: ما معدلات الحديث النافع في يومنا؟ وكم من حديث كتمناه في دواخلنا، كان جرعة عجيبة من الهدوء والتصالح النفسي.. وكم من حديث أطلقناه فكان حدثًا لا يرضينا بعد محاسبة النفس..
كم نستقطع من وقتنا للحديث مع الآخرين؟ وما قيمة الفوائد؟.. وكم معدلات «الصمت» الحكيم الذي ينعش العقل، ويجبر الخاطر، ويهزم الإحباط، ويخذل الافتراء؟..
سؤال آخر، ينبغي أن نسأل أنفسنا به: من أين نبعت أحاديثنا؟ وما بوصلة اتجاهاتها ونتائجها مع الآخرين؟
وثمة أسئلة أخرى، تدور حول: هل لدينا رقابة ذاتية على أحاديثنا؟ هل نسمح للآخرين بردات أفعالهم اللفظية؟ ما معدل سوءات «الغيبة» ونتوءات النميمة في الأحاديث المغلفة بالنصح والفضفضة والتنفيس والبهتان؟ وما مصير تشدُّد نفسي يرمي بصاحبه في قبو ندم لفظي بالغ في عمق التأنيب؟
الأحاديث امتحان يومي، يكثر فيه الراسبون، ولا مكان فيه للإعادة سوى من بوابة «التوبة»، ولكن تحتم فيه الاستفادة من التجربة.. في وقت تحتاج فيه أجهزتنا النفسية إلى هدنة مع سلوكيات مرتبطة بالقول..
لذا يجب أن يكون لدى كل إنسان معايير رقابة يومية، تنظف وعاءه العقلي من براثن «الأخطاء القولية»، وتسحب من معترك حياته «حديث الأهواء» حتى يصل إلى تكامل بين القول والفعل، يرتقي به، ويرقى فيه إلى حديث «عمر»، يرفض السوء، وينطق بالسواء.