د. حسن بن فهد الهويمل
لا أحد - كائناً من كان - فوق المساءلة، والنقد. ولا أحد - كائناً من كان - يمتلك العصمة إلا ألو العزم من الرسل، وفي مجال التبليغ عن الله.
وليست هناك دولة ملائكية تمتلك الخيرية المحضة، بحيث لا تحتاج إلى معقب لأشيائها.
وفي المقابل ليست هناك دولة شيطانية خالصة الشيطنة، مفعمة بالشر المستطير. والأمور - في النهاية - درجات، أو دركات. ذلك ما رضعناه، وذلك ما علمناه، وتعلمناه.
الإنسانية بمفهومها المادي قرينةٌ للسوء أبدًا. ورد ذكر الإنسان في القرآن خمساً وستين مرة، أكثرها في سياق الذم، و{وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} و{إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} و{إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، و{وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا}، و{وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا}، و{أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}، و{وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا}، و{وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}، و{خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ}، و{وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا}، و{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، و{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}، و{قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}، و{كَلَّآ إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى}.
هذه الأخلاقيات المتدنية، تُصَعِّد الاختلاف، وتعمّق الفرقة، وتُحَمِّل السلطة أعباء لا تُطاق. لأنها مسؤولة عن التربية، والتوعية، والتعليم، والتأديب.
المُتَعَرُّون من لباس المواطنة الحقة يلتمسون ألبسة خدَّاعة، تغري المغفلين، والسذج، ومرضى القلوب بمتابعتهم. والتفريط بما في أيديهم من مكتسبات لا تقدر بثمن.
والأَنْسَنَة الفارغة من كل القيم تجنح إلى الخصام، وتُحَمِّل المخدوعين جَرائر إخفاقاتها، وتقبل العيش في ظل [الصليب] بدعوى المعارضة الزائفة.
ما لا ننكره تعدد المشارب، وتنوع الاتجاهات، واختلاف الرغبات، وتجاذبات الفاضل، والأفضل. والخطأ، والصواب، ولكن [السلطات الثلاث]:- الدينية، والسياسية، والمجتمعية، تروض الجماح، وتأطر على الحق، وتخيف المجازفين، وتحمي المثمنات: الحسية، والمعنوية من عبث المارقين الذين يحتمون بالمغضوب عليهم، والضالين.
وعلى ضوء ذلك فاختلاف وجهات النظر، وتفاوت الأولويات، وتباين المقاصد، وتعدد أنظمة الحكم، وأساليب تداول السلطة فيها، من حتميات الحياة. والبراعة ليست في حسم المشكلات، ولكنها في حسن إدارة الاختلاف. وفي حسن التصرف مع الأزمات.
المشاهد تتسع لأكثر من رأي، والقمم تستوعب أكثر من متميز، والتاريخ حافل بالاستثنائيين. والمصالح حين تتعارض فإن بالإمكان التوفيق بين وجهات النظر، والخلوص من الصدام إلى الحوار.
[الحضارات] تنمو حين يجنح ذووها إلى السلام، ويغلبون الحكمة على الطيش، والإيثار على الأثرة، والتعايشَ على التدابر، والتصالحَ على القطيعة، وحين تكون بين أناسيها صلات القربى الآدمية:- {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ }، و{كل نفس رطبة فيها أجر}، و[حبس الهرة]، و[إسقاء الكلب].
والرسول صلى الله عليه وسلم أُرسل رحمة للعالمين، وليس لجنس، أو لعقيدة. والبر، والقسط مأمور به مع المخالف في الدين، إذا لم يحارب، أو يظاهر. خيار الحرب خيار ثانوي، والمسلم ليس بالطعان، ولا باللعان.
ولو رُشِّد الخلاف لضيق الخناق على المتمردين المفارقين للجماعة، المتسربلين بلباس المعارضة الزائف.
[المعارضة] مصطلح سياسي، ولكنه لا يتوفر على الجمع، والمنع. هذه المنطقة الضبابية تتيح أكثر من فرصة لمن أراد الخروج على الجماعة، ومنازعة الأمر أهله، والموغلون في الفتنة يتشحون بأردية المعارضة الخداعة، ويستجدون بِقَوْل الزور عواطف [الرأي العام]، مستثمرين اختلاف المفاهيم، وتباين الأنظمة السياسية، وتعدد أساليب تداول السلطة. ولما كان الإعلام كـ [نار المجوس] أصبح ذووه مَهْووسين بالبحث عن بؤر التوتر لتوفير الوقود.
ولما كان الإعلاميون يقتاتون من شبا أقلامهم، وأسلات ألسنتهم، أصبحت المصالح الذاتية تقتضي رعاية المشكلات، والحيلولة دون حلها. تماماً كصناع الأسلحة.
هؤلاء، وأولئك يسعون جهدهم لإشعال الحروب الأهلية. ذلك كله داخل في حقيقة [الدورة الغذائية]، إذ كل جنس هو في النهاية غذاء لخلق آخر.
وأصحاب القلوب المخمومة يظنون أنه بالإمكان استقامة الحياة على السلم، والإخاء الإنساني، وأن السَّلام خيار ممكن، وسَهْل التحقيق.