كوثر الأربش
(الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من عدم، ولكنها تتحول من صورة لأخرى). قانون فيزيائي، يُسمى بقانون انحفاظ الطاقة. بمعنى أن الطاقة لا يمكن أن تتلاشى، بل تتحول لطاقة أخرى. الحركية تتحول لحرارية، وهكذا. وقفت الفكرة خلف الثورة الصناعية التي أنتجت لنا أهم أجهزة العصر الحديث. ويبدو أنني الْيَوْمَ سأستخدمها لتفسير تحول المتطرفين من شكل إلى شكل آخر، مع الاحتفاظ بكل سمات التطرّف وتغير القالب فقط.
إنني كثيرة الصمت في المجالس العامة والخاصة؛ لأنني أكون عادة مشغولة في التحليل، والتأمل، واستنباط الأفكار. وأزعم أنني حظيت بفرصة نادرة بأن أكون على مسافة واحدة من جميع الأطياف، والمذاهب والمعتقدات. كما أن لدي من الفضول ما يدفعني بجنون نحو استكشاف طريقة تفكير الفئات الخطرة والمتطرفة وحتى الإجرامية والمحرضة. قد أكون هنا مغامرة، لكن حُمى المعرفة لم تتركني أمتنع عن الإيغال في نفسية هؤلاء وعقولهم. إنني أمضي أوقات فراغي في متابعة بعضهم على اليوتيوب، أتأمل حتى طريقة إيماءاتهم ولفتات وجوههم. إنني أخبركم بهذا لأصل لفكرة المقال، وحتى تكونوا معي في هذا الكشف الممتع، على الأقل بالنسبة لي.
لقد اقتربت من الجميع، سنة وشيعة، ليبراليين ومتشددين دينيين، مسلمين وغير مسلمين، إخوانيين وخمينيين. عرب وأعراق أخرى، مسالمين وعنيفين. لقد كنت مهتمة باستكشاف الجميع، وربما من هبات الله عليك أن يضع بك قبولاً، وهذا ما يساعدك في الاقتراب من الجميع. وكنت في رحلتي الاستكشافية تلك شهدتُ تحولات البعض، من مذهب لآخر، ومن فكر لفكر مختلف. وما أدهشني حقًا، هم المتطرفون!
إنه لشيء مذهل أن تتابع تحولات المتطرفين، إنهم يندفعون للاتجاه الآخر حاملين معهم كل صفاتهم السلبية والعنيفة، للدخول تحت مسميات أخرى، تبقى في النهاية مجرد مسميات، مجرد ماكياج وأصباغ ظاهرية. لهذا غالبًا لا أثق بسهولة بمتطرف ديني تحول لليبرالية، أو الحقوقية، أو لأي مسمى آخر، من تلك المسميات التي لا أؤمن بها، ولكنهم يؤمنون. في هذا المقال سأركز على فئة النشطاء الحقوقيين والمهتمين بالقضايا الإنسانية وحرية الرأي. وأعني تحديدًا المتطرفين الدينيين الذين تحولوا من الفكر الديني المتشدد للفكر الإنساني (الذي سأسميه التطرّف الحقوقي). وهو ما يناسب سياق المقال.
تلك فئة لم تأخذ حقها من الدراسة، لم تلفت نظر الكثيرين، اندمجت في النشاط الحقوقي والإنساني، وصدق الكثيرون هذا التحول؛ البعض لا يعرف - في الأصل - خلفياتهم.
لتعرف هؤلاء، وحتى لا تنخدع بهم، سأخبرك ببعض الملامح التي تميزهم:
- ضيق الأفق، المحدودية، أعني أفكارًا جامدة، صماء لا تتزحزح، تعتبر هذه الأفكار مرجعياتهم في الخطاب أو في التعامل مع الآخرين. من أهم هذه الأفكار المعلبة والمشوهة: ربط حرية الرأي بكراهية الحكام العرب! يكفي أن تبدي رضا عن حاكم عربي حتى ينهال عليك هؤلاء بالشتائم والتهم، ونعتك بالمستغفل والمخبول. ولَك أن تتخيل النعوت العنيفة في حال أبديت تأييدًا وحُبًا. ستصبح فورًا عميلاً، مرتزقًا، مطبلاً ومنتفعًا. لدى هؤلاء حساسية، أو لنقل عُقدة من الملوك والرؤساء والشيوخ والأمراء العرب. لن تجدهم يهاجمون مسؤولاً غير عربي. إنهم يَصبون جام غضبهم على حكامهم فقط. ويسوغون لأنفسهم كل أعمال الشر المنافية للتسامح والإنسانية التي يفترض أن تتوافر في كل منتسب للإنسانية والحقوقية، إذا تعلق الأمر بحاكم عربي أو المؤيدين لهم. إنهم يصبحون عدائيين وفجين، ويسمحون للمتطرف القديم بداخلهم للخروج بأسلحته. يتناسون أن خطاب الكراهية يبقى خطابًا للكراهية حتى وإن كان موجهًا لحاكم ومسؤول وسياسي.
- احتكار المثل والمبادئ والعقلانية والأخلاق والحريّة بسلوك واحد، هو معارضة الدولة. أعني طالما أنت مؤيد لحكومة بلادك فأنت بالنسبة لهم مستعبَد، فاقد للشرف. فهم يهبون لأنفسهم الحق الكامل بالمعارضة، لكنهم سيهاجمونك ويسلبون حقك في التأييد والموافقة. إن الفكر الحر الحقيقي يهبك كامل الحرية أن تؤيد، وتدافع، وتحب من تشاء، إلا هؤلاء. إنهم لا يعون من مفاهيم التأييد والمحبة والموافقة شيئًا. هم ببساطة يريدون لكل الناس أن يصبحوا مثلهم، ويعملوا على ذلك بالقوة والعنف. أليست هذه صفات المتطرفين؟
سأكتفي بهاتين الملاحظتين، وسأختم بكلمة لهؤلاء. وإني متأكدة أنهم يقرؤون.
الحاكم العربي إنسان أولاً، ولا توجد مسوغات إنسانية ولا دينية تبرر وحشيتكم تجاههم. البشر ليس معصومًا. الصراخ والشتم والعنف لن ينفع البلاد في شيء. ونحن أحرار في تأييدنا. ستقولون إن الأمر مفروض علينا، وأن لا خيار لنا. لكن، وبكل صدق، سأخبركم، في السعودية والإمارات، البحرين والكويت، عمان وغيرها من الدول العربية، وخصوصًا التي يتسم الحكم فيها بالملكية، نحن الشعب الخليجي لم نُسق سوقًا كما تتوهمون، لا رغبة في مكافآت، ولا رهبة من عقاب. نحن ببساطة متآلفون مع حكامنا، وهناك علاقة دافئة تحتضن الجميع.. هذا ما لا يعجبكم، ولا يقنعكم. اخرجوا من هذا الضيق لرحابة القبول، انسوا أو تناسوا هذا العنيف الداخلي الذي سكن جوارحكم سنين. تعرفوا على الحياة بشكلها الفسيح والجميل. جربوا جمال الاتفاق ونقاط الالتقاء، بل حتى الاختلاف المسالم، دون شحن وتحريض وتهم ووحشية.