د. جاسر الحربش
بعد الاكتساح الجماهيري لوسائط التواصل المفتوح على كل القارات، انتهت حصة الأزمنة القديمة من إيجابيات وسلبيات وسائل التواصل المحتكرة والخاضعة للرقابة، الواسعة أو الضيقة حسب خصوصيات مفاهيم وإدارة المجتمعات السياسية والدينية والاجتماعية. من السلبيات القديمة التي أنهتها وسائط السوشيال ميديا الحديثة احتكار الرأي المكتوب والمقروء والمسموع وبرمجة الأفكار حسب رغبات النخب المنتمية غالباً للطبقة الاجتماعية العليا، والتي كانت تسمح لنفسها فقط بسقف أعلى من الاطلاع والكلام والتفكير والتصرفات، وتخلخلت كذلك القدرة الرقابية على المتابعة والمساءلة، وانخفضت نسبة الخوف من كسر قواعد التواصل المحددة داخل الأطر المقننة التي لم تكن كلها منطقية تراعي أهمية تغير العقول والأفكار مع تغير الأجيال وتأثيرات الاحتكاك المادي بالمجتمعات الأخرى.
حالياً المشكلة الماثلة أمام المجتمعات التي كانت مقيدة من قبل بتلك السلبيات هي الاحتمالات شبه المؤكدة لفقدانها الكثير من إيجابيات عصور ما قبل انتشار السوشيال ميديا، بمعنى أن التخلص من بعض السلبيات القديمة سبب معه فقدان إيجابيات تربوية وأخلاقية وعائلية وأمنية، بما يصل إلى انتشار الكثير من الجنوح والخروج على التكافل والأمن الأخلاقي والمادي والعائلي بما في ذلك القفز على الاشتراطات العقلانية التي ترسخت عبر مئات السنين للتعايش تحت مظلة واحدة اسمها الالتزام بالهوية الجامعة والإرث الحضاري الإيجابي المميز للمجتمعات.
أتاحت السوشيال ميديا بما وصلت إليه حتى الآن (والقادم أكثر) المجالات للتخفي والتنكر والمراوغة، مما يسهل انتشار القبح والفحش اللفظي والمجسم، كما أتاحت للفرد التنكر حتى داخل عائلته بحيث يبدو لها كما كان بينما قد يكون تحول إلى مسخ متهور بدون روادع. الأفظع من ذلك أنها فتحت الأبواب واسعة لتعارف المتشابهين على ومع بعضهم، ليس فيما يخص تبادل الآراء والأفكار والخبرات المفيدة، بل خصوصاً وأهم من ذلك لتكوين التجمعات الفرعية عبر الجهاز الإلكتروني والوصول إلى الأطفال والمراهقين ومروجي المخدرات والغواية الجنسية وغير ذلك مما يصعب قوله.
النتيجة المخيفة المحتملة من ذلك هي تفتت ما كان من قبل هويات متقاربة المفاهيم الأخلاقية والتطلعات الوطنية داخل الهوية الكبرى الجامعة، إلى فقاقيع من الهويات الفرعية لا حصر لها. بالتأكيد سوف توجد بين هذه الفقاقيع تجمعات فرعية عقلانية وجيدة التفكير والتخطيط للمستقبل، ولكن من المحتمل أيضاً أن أكثر الهويات الفقاعية الفرعية قد يكون غير ناضج عقلياً وغرائزياً، أو محبطاً معيشياً لدرجة عدم المبالاة بتدمير الذات والأسرة والمجتمع والدولة. الموضوع خطير جداً ويحتاج إلى عقول كبيرة.