د.عبد الرحمن الحبيب
حتى الآن يبدو أن أهم أهداف الهجمات في الشبكة الإلكترونية هو عمل تخريبي محدود لاستفزاز الخصم أو التعبير عن الاستياء أو إظهار البراعة في الفضاء السيبراني والتقدم التكنولوجي، فضلاً عن التجسس خاصة بالمجال الاقتصادي. أما نشر المعلومات المضللة فيهدف غالباً للتشويش الاجتماعي كحرب إعلامية خفية.
لكن هل يتوقف الأمر على ذلك؟ وما هي الحالة الراهنة؟ «كنت أجلس في حانة مظلمة في بلدة صغيرة على مسافة ساعة بالسيارة من عاصمة كوسوفا، بريشتينا.
وأمامي رجل متوتر، يشيح برأسه بعيداً كلما شعر بأن الكاميرا قد تلتقط صورة له.
كان هذا الرجل أحد تجّار الأخبار المزيفة، ووافق بالنهاية التحدث إليّ عن كيف يجني الأموال من هذا العمل».
هذا ما كتبه كارل ميلر أثناء بحثه عن قوة العصر الرقمي وكيف تغيرت بالآونة الأخيرة، مكتشفاً أن نشر المعلومات المضللة صناعة مزدهرة، وتشمل شتى المواضيع بعضها ذات تأثير سياسي كبير مثل الزعم عن حملات التأثير الروسية بالانتخابات الأمريكية.
تبدأ المعلومات المزيفة بأحد وسائل التواصل الاجتماعي خاصة فيسبوك ثم تنتشر بين الملايين.
ورغم أن فيسبوك ضاعف من فرق الأمن الإلكتروني لديه إلى 20 ألف موظف بالأشهر الأخيرة، وأغلق عدداً كبيراً من الصفحات التي تنشر الأخبار المزيفة، مما قلل مشاهدتها لحد كبير.
إلا أن فيسبوك عاد وأعلن أنه «لن يحذف» كافة الأخبار المزيفة لكنه سيخفض ترتيبها بخاصية تغذية الأخبار، وذلك بدعوى «حرية التعبير»!!
وإذا كانت هذه الدعوى غريبة وتثير السخرية فالأغرب هو وجود تجمعات مغلقة لتجار الأخبار المزيفة يتراوح أعضاؤها بين المئات والآلاف، ولكي تصبح عضواً فيها عليك تلقي دعوة من داخلها.
والطريف أن فيها صفحات إرشادية للمبتدئين لعمل الأخبار المزيفة والالتفاف حول إجراءات فيسبوك، بالإضافة لمواقع يمكن من خلالها تحويل نشاطك إلى أموال.
الإجراءات للحد من المعلومات المزيفة، وملل الناس منها، أضعفها كثيراً وجعلها محدودة بالأخبار «التافهة» عن المشاهير ولاعبي كرة القدم والفضائح الجنسية؛ لكن ثمة الجزء الآخر وربما الأخطر وهو التخريب بالشبكة الإلكترونية، ما صار يسمى «الحرب السيبرانية» التي يتفق القانونيون على أن انتشارها يطرح أسئلة حول تطبيق القانون الدولي وحتى إعادة تعريف «النزاع المسلح».
فغياب قواعد تنظم السلوك بالفضاء السيبراني يسبب الأعمال العدوانية وعدم الاستقرار فيه وسبب محتمل لصراع حقيقي، حسب رأي تارا ويلر الخبيرة بالأمن الإلكتروني.
لكن أغلب المراقبين يرون أن عدم وجود هذه القواعد، لا يعني أن الفضاء السيبراني فوضوي تمامًا، فثمة قواعد ضمنية غير معلنة تقيد العمل العدواني من الجهات المهاجِمة خوفًا من إثارة الطرف الآخر، لأن احتمال حدوث خلل واسع للجهاز الحكومي سيؤدي لغضب الدولة المتضررة، والدخول في صراع وربما مواجهات عسكرية لا تريده الدولة المعتدية.
هذه القواعد الضمنية مستمدة من حقائق استراتيجية تعمل على تخفيف أثر الهجمات السيبرانية؛ فهي تخضع لاعتبارات سياسية واقتصادية وعسكرية، تُحتم التقليل لأدنى حد من النزاعات المكلفة بين الأطراف المعنية، ولا يُقصد منها المواجهة الصدامية، حسبما وجده ميجيل جوميز الباحث بمركز الدراسات الأمنية، زيوريخ.
إذن، ما الذي يقصد من الهجمات السيبرانية؟ يكشف استعراض الهجمات من عام 2000 إلى عام 2016 عن نمط مثير للاهتمام.
فباستثناء العدد الكبير من عمليات التجسس خاصة بالمجال الاقتصادي كما هو الحاصل بين الصين وأمريكا، كان الباقي معطِلاً وليس مدمراً، مثل تشويه موقع الشبكة أو إيقاف الخدمة، يتم احتواؤه ومعالجته بسرعة، ولا يؤدي إلى تحول ملموس بطبيعة الصراع على أرض المعركة المادية.
على سبيل المثال، تعكس السلسلة الطويلة من عمليات تشويه الشبكة وإيقاف الخدمة بين الهند وباكستان هذه الديناميكية.
وبالنظر إلى الطبيعة المستقرة لهذا التنافس، فقد اختار كلا الطرفين مقاربة متبادلة بهذا السلوك التخريبي.
إذ يقابل تشويه موقع هندي على الإنترنت تشويه موقع باكستاني مناظر في غضون أيام، مع عدم اختيار أي من الجانبين لرد أكثر قوة على استفزازات الآخر، حسب جوميز (فورين بوليسي).
يوضح جوميز أن استعراض الهجمات الإلكترونية من كوريا الشمالية للفترة من 2008 إلى 2014 يبين أن معظمها تسببت باضطرابات منخفضة المستوى في الأنظمة الخاصة وغير العسكرية للخصوم (أمريكا واليابان وكوريا الجنوبية) هدفها الاستفزاز.
بالإضافة إلى أن هذه الأعمال تتزامن مع أحداث تاريخية أو سياسية أو عسكرية هامة، هدفها استعراضي دعائي، وينطبق الشيء نفسه على إيران.
ففي حين تشير التقارير إلى أن كوريا الشمالية لديها القدرة على تعطيل البنية التحتية الحيوية مثل شبكات الكهرباء، إلا أن هذا التصرف ستكون له عواقب وخيمة لا قبل لكوريا الشمالية بها.
من المهم وجود قواعد دولية لتنظيم الفضاء السيبراني لكنها لن تحد من العدوان فيه قدر ما تحد منه القواعد الضمنية المستمدة من عواقب العدوان السيبراني بأرض الواقع.
أما الشبكات الاجتماعية، فإن «كنت تريد القضاء على الأخبار المزيفة، فلا يمكنك حرق الحقول، فكل ما تحتاجه هو إعطاء الناس شيئا آخر لزراعته» حسب تعبير كارل ميلر.
فالمجتمعات التي تشبعت بالأخبار المزيفة يمكنها تحفيز وعيها بالتفكير النقدي والتقييم الموضوعي لتدفق المعلومات المتراكم بالإنترنت.