د.عبدالله مناع
تمتلئ مكتبتي المنزلية بعشرات العشرات من كتب (الروايات) والمذكرات والدواوين الشعرية والأعمال الكاملة والموسوعات.. ومن بينها كتب ودواوين أديبنا الفذ وشاعرنا (المقدام)، الذي افتقدت الساحة الأدبية صوته وقلمه وفكره وحضوره و»ظرفه».. منذ ثمانية أعوام: الأستاذ الدكتور غازي القصيبي.. التي قرأتها جميعاً.. لأنني أحبه: شاعراً وكاتباً وروائنا ومحدثاً.. بل وزيراً.. حتى في شطحاته عندما ولي وزارة الصحة، وقد كنت أحد أصدقائه الذين لا يعدون من كثرتهم.. إلا أن أحداً من كل هؤلاء ما كان له أن يتقدم في صداقته على أولئك (الثلاثة) المقريين منه إلى حد التمازج.. وأولهم الأستاذ عبد الرحمن السدحان، وثانيهم الأستاذ حمد القاضي.. وأولهم (مكرر) الأستاذ عبد الرحمن الرفاعي شاعر العامية البحرينية الفريد.. وصاحب ديوان (زمان أوَّل)، الذي لا يمل (القارئ) من قراءته.. ولا (السامع) من الاستماع إليه إذا أنشد الشاعر نفسه قصائده...!
وقد تزاحمت أعداد الكتب في مكتبتي -خلال السنوات الأخيرة - حتى فاضت عن أرففها.. لأبحث لها عن أماكن في زوايا الغرفة، وحول مكتبي الذي يتوسطها..
في هذه الأثناء.. طلب مني أحد الأصدقاء الأعزاء الاطلاع على المجلد (الثاني) من مجلدات (مجلة اقرأ)، الذي يحتوي على أعدادها الأول.. لأنه يريد الاطلاع على العدد السادس عشر.. وتصويره وإعادته...؟ لا دخل في معمعان البحث عن ذلك (المجلد).. الذي ساعدني في البحث عنه سكرتير مكتبي حتى عثر عليه، وقد تم تسليمه لـ (طالبه) فعلاً.. لكن بحثه أوقعه في (لؤلؤة) لم تكن في حسانه وحسباني.. عندما فوجئت ذات صباح بوجود (كتاب) فاخر التصميم والتجليد على إحدى طاولات مكتبي الصغيرة.. وكأنه خارج لتوه من (المطبعة)!! كان (الكتاب) للصديق الدكتور غازي القصيبي.. وكان عنوانه: (الخليج يتحدث شعراً ونثراً)...!
***
كانت مفاجأتي الثانية، أنه كان بداخل (الكتاب).. خطاب مرفق من الشيخ عبدالمقصود خوجة.. يهديني فيه هذا الكتاب، وهو يقول: (قليلة هي الكتب التي تجذب القارئ ليلتهمها من الغلاف إلى الغلاف في أقصر وقت ممكن.. وقد لا يتركها إلا للحظات الضرورة، ثم يعود إليها أكثر شوقاً وشغفاً.. لتفقد معها عقارب الساعة مدلولاتها، ويتحول الوقت معها إلى ماعون لمتعة لا توفرها إلا قراءة مثل هذه الكتب النادرة)...!
تم أخذ في الحديث عن الكتاب قائلاً: (بين يدي كتاب «الخليج يتحدث شعراً ونثراً» لمعالي الأخ الصديق الدكتور غازي القصيبي.. يتناول بأسلوب سلس، سهل ممتع قراءات معاليه المتعمقة في بعض الأعمال الأدبية الخليجية.. ولعل أجمل.. ما في الأمر مداخلاته اللطيفة التي تأتي كالنسمة الساحرة.. فهو الأديب، المفكر، الشاعر، الناقد، الإداري، الدبلوماسي، الذي تعودنا منه أن يهز شجرة الإبداع وقتما يشاء، فنجني منها أطيب الثمار.. متمنياً لكم أوقاتاً ممتعة مع هذا الكتاب الذي يثير في المنفس شجوناً، ويعطى لـ (لقراءة ملمحاً آسراً وعمقاً ساحراً)...!! لا تناول (الكتاب).. داعياً للشيخ عبد المقصود خوجة بـ (الصحة) والعافية.. حتى يعود إلى حياته، و(اثنينيته) التي طال غيابها، وللدكتور غازي القصيبي.. بالرحمة وحسن المآب.. لا دخل إلى عالم (الكتاب) الذي زادني شوقاً إليه الشيخ عبد المقصود.. بهذا الإهداء...؟!
***
كان (الكتاب) الذي أهداه لصديقه (الأستاذ عبد الرحمن السدحان التي تتحدث صداقته شعراً ونثراً) كما قال.. قد صدر -ويا لهول مفاجأتي الثالثة - في عام 2003م) عن دار (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، ولم يقدر لي الاطلاع عليه.. أو حتى العلم بصدوره، وهو عبارة عن مجموعة المقالات التي نشرها الدكتور غازي في (المجلة العربية) أيام رئاسة تحرير صديقه الأستاذ حمد القاضي لها.. لكن تاريخ صدوره -في عام 2003م - كان موحياً بالنسبة لي، فقد كان يدور في أوساط القيادات العربية والمثقفين العرب.. وقتها -وما قبله -جدل حول (دول المركز) ودول (الأطراف)!! وأن (دول المركز) هي مصر والشام والعراق.. وربما دول الشمال الإفريقي! أما دول الأطراف.. فهي (الدول الخليجية) التي لا تملك غير (النفط)!! وأحسب أن تلك المقالات التي كتبها الدكتور غازي.. واستعرض فيها الكثير من الأعمال الأدبية الخليجية.. كان حافزها الأساسي هو ذلك الجدل.. والدفاع عن (الدور الخليجي) المهمش، الذي كانت تنظر اليه (دول المركز) بدرجة من (الاستعلاء).. وربما (الاستخفاف) في ظل المقولة السائدة آنذاك بـ (أن لا حرب بدون مصر وأن لا سلام بدون «دمشق»).. وقد أحسن الدكتور غازي بما فعل -بما كتب وبما نشر وبما أصدر!؟
***
ولكن.. بعيداً عن ذلك الجدل بقي كتاب (الخليج يتحدث شعراً ونثراً) الذي كتبه الدكتور غازي القصيبي بـ (روح) فنان و(عقل) مفكر.. (مُشرقاً) بالأعمال التي تناولها بأسلوبه السلس الرشيق، و(مشرّفاً) بكوكبة الأسماء التي استعرض بعض أعمالها.. بـ (لغة) لا أجمل منها، وبـ (مداخلات) لا أروع منها في طرافتها وروحها المرحة التي تذكر بـ (ظرف) الدكتور غازي وخفة ظله، ولكن ولأن (الكتاب) يستعرض أعمالاً أدبية وروائية و(سيراً) ذاتية لأكثر من سبعين أديباً وشاعراً وكاتباً وروائياً.. فسأكتفي هنا بذكر بعضهم وما قاله عنهم.. ليتذوق القارئ جمال هذا (الكتاب).. وحلاوة تلك (المداخلات)!!
ففي المقال الخامس: وقد كان بعنوان (مقابسات العمير).. رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط آنذاك.. كتب الدكتور غازي يقول: (طالما سألت عثمان العمير.. متى ستنشر كتاباً)؟
(وطالما همهم وغمغم وأجاب إجابات غامضة يحسده عليها أعتى الدبلوماسيين)...!!
(وطال السؤال.. وطال التهرب.. حتى اقتنعت أن عثمان العمير يؤمن بنظرية كامل الشناوي رحمه الله: لا يزال الرجل متمتعاً بعقله حتى يتزوج.. أو يؤلف كتاباً)...!!
(ثم فوجئت بكتاب يصدره عثمان العمير يحتوي على عدد من مقابلاته مع رجال السياسة في الشرق والغرب، والعمير لم يسم كتابه «مقابلات» وإنما «مقابسات» وقد أشار في المقدمة إلى «مقابسات التوحيدي»)..
(وأنا -يا لجهل المرء الذي يكتشفه كل يوم - لم اقرأ مقابسات التوحيدي.. والحق إنني لم أسمع بها)!!
(سألت عثمان العمير عن الاسم.. فقال «اختاره التوحيدي.. من باب التواضع»!
وقلت: هل اخترته أنت، بدورك، من باب التواضع؟!
فضحك ولم يرد)!!
* وفي مقالة أخرى عن (الشيخ) محمد عمر توفيق وكتابه «محمد عمر توفيق بلسانه ولسان الآخرين».. بعنوان: (محمد عمر توفيق دفء الكلمات الصادقة، يقول الدكتور غازي فيها: (عرفت محمد عمر توفيق عن كثب.. وكلما ازدادت معرفتي به ازددت استغراباً من مواهبه المتعددة التي كانت تخفى على الناس..
(وأحسب.. لا بل أكاد أجزم، أنه كان يتعمد إخفاءها عن الناس..
(لا تستطيع أن تتلمس روح الدعابة المتطورة لديه إلا إذا عرفته عن كثب، ولا محفوظاته الهائلة من نثر وشعر، ولا سجيته المتدفقة في الشعر إلا إذا عرفته عن كثب. تذكرني مواهبه العديدة بجبل الثلج الشهير.. لا يرى الناس إلا الجزء الطافح الصغير فوق سطحه.. ويبقى الجزء لأكبر سابحاً تحت الماء)، ويضيف الدكتور غازي قائلاً: هل هناك وزير يقول لمن يخبره أنه دخل الوزارة لتوه؟
فيرد التوفيق: «أنت غلطان في الغالب»..؟
لا يمكن أن يوجد.. ولكن أبا فاروق قالها.. ولم يخجل من تسجيلها..
(ويسأله السائل (المشاغب): ماذا تريد أن نُبت الأرض؟ ويرد أبو فاروق: برسيماً عقلياً!
(قال أبو يارا -يقصد القصيبي نفسه -: وما أحوجنا إلى برسيم كهذا!
* وفي مقال آخر بعنوان (أرض السواد) لصاحب خماسية (مدن الملح) الأستاذ عبد الرحمن المنيف.. والتي قال عنها الدكتور غازي بأن «السياسة» دخلتها فأفسدتها، وحولتها إلى (كاريكاتير سياسي).. وأن ثلاثية (أرض السواد) هي الرواية التي يستحق أن يفخر بها كاتبها، (لأن البطل الحقيقي في «أرض السواد» ليس هو داود باشا -حاكم العراق في القرن التاسع عشر -، ولا القنصل البريطاني، ولا أشخاص البلاط.. ولكن البطل الحقيقي هو شعب العراق، الذي تمثله شخصيات من «صوب الكرخ».. فـ (هؤلاء البسطاء بآمالهم البسيطة.. وبهمومهم البسيطة.. وبكلماتهم البسيطة.. هم محور هذا العمل الفني الأخاذ، وقد تركهم المنيف.. يتكلمون على سجيتهم.. بلغتهم البغدادية الأصيلة وحسناً فعل! إِذ لو تكلم رواد «مقهى الشط» باللغة العربية الفصحى.. لماتت الرواية.. بالسكتة اللغوية»)...!؟
* وفي مقال آخر.. جاء بعنوان (كتاب جميل.. جميل.. جميل).. يقول الدكتور غازي فيه: (الكتاب جميل بصوره الجميلة.. والكتاب جميل بنصوصه الجميلة.. والكتاب جميل بترجمته الجميلة. اسم الكتاب: «المستحيل الأزرق».. واسم المصور: صالح العزاز.. واسم كاتب النصوص: الشاعر قاسم حداد.. واسم المترجم إلى الإنجليزية: نعيم عاشور.. لهؤلاء جميعاً أقول: أحسنتم.. فقد صنعتم كتاباً جميلاً.. جميلاً..)...!؟
لأقول لـ(أبي يارا): وقد صنعت أنت أيضاً بهذا العمل.. كتاباًَ جميلاً.. جميلاً.. جميلاً...!؟
جميلاً بـ موضوعاته.. جميلاً بـ اختياراته.. جميلاً برشاقة وجمال أسلوبه.
ليبقى في النهاية.. الحب لك.. والدموع على فقدك مجدداً.. والدعاء لك.