محمد عبد الرزاق القشعمي
يذكر الشيخ حمد الجاسر في (سوانح الذكريات) عن التعليم بالأحساء، أن الأستاذ محمد علي النحاس قدم من مصر مع أساتذة آخرين كان الشيخ حافظ وهبة قد استقدمهم في سنة 1347هـ/1928م، عندما كان مديراً للمعارف.
وقال أنه نُدِب سنة 1356هـ ليتولى فتح مدرسة الأحساء فسارع إلى الاتصال بالعلماء والتحبب إليهم، والمباحثة معهم في شأن ما كُلّف به من عمل، واتفق معهم بأن تكون جميع أمور المدرسة تحت توجيههم، ومراقبتهم وإرشادهم، وقدّم لهم تعهداً بذلك، موقعاً منه، حتى لا يحصل له ما حصل لمن سبقه وهو الأستاذ راغب القباني الدمشقي أحد حاملي الشهادة العالمية من الأزهر الذي قدم للأحساء عام 1352هـ والذي أخطأ عندما ذهب للجامع الكبير الذي بناه الإمام فيصل في يوم الجمعة، وبعد الصلاة وقف خطيباً ليحث الناس ويرغّبهم في إدخال أبنائهم في المدرسة التي أمرت الحكومة بفتحها.. وقال واصفاً الجهل بأنه (ضرب أطنابه في هذه البلاد)، وكان لهذه الجملة تأثيرها السيئ في نفوس العلماء الدينيين، وعدوها إهانة موجهة لهم، مع ما تشبعوا به من فكرة سيئة عن المدارس الحديثة. ولذلك سعوا في التنفير عنها، حتى أغلقت بعد بضعة شهور من فتحها.
وحتى لا يحصل للنحاس ما حصل لسلفه، بدأ بتوطيد علاقته بعلماء الأحساء ومنهم: آل مبارك وآل عبدالقادر وآل مُلاَّ، واختار النحاس أوائل المدرسين من هذه الأسر.
وعندما علم باستنكار العلماء لتدريس الجغرافيا، تدارك الأمر ونزع الكتاب من أيدي المدرسين واعتذر للعلماء، وباجتهاد منه أنشئ (مجلس معارف الأحساء) من مدير وستة أعضاء، ثلاثة من العلماء، وثلاثة من أعيان أهل البلاد.
واستمر النحاس في إدارة المدرسة حتى 1361هـ/1942م، وكانت وظيفته وقتها (معتمد المعارف بالأحساء).
وبعد عودة الأستاذ حمد الجاسر من البعثة في مصر بسبب الحرب العالمية الثانية رغب العمل في التدريس طالباً إدارة مدرسة الدمام، فقرر مجلس المعارف توجيهه للتدريس بمدرسة الأحساء براتب 770 قرشاً سعودياً شهرياً ابتداء من 25 شوال سنة 1358هـ. فبدأ التدريس بعد عطلة العيد وقويت صلته بالنحاس وبالمدرسين، واتصاله ببعض أولياء أمور الطلاب، فأحس بكثير من الراحة، وقويت رغبته في مواصلة مهنة التعليم بالأحساء.
وقال إنه استفاد من صلته ببعض العلماء بتكرار زياراته لهم مما زاد به معرفته عن تاريخ هذه المنطقة.
وقال إن صلته قويت بالشيخ محمد بن عبدالمحسن آل عبدالقادر قاضي المبرز، ورئيس مجلس المعارف. فقد كان يكرمه ويطلعه على مواد من كتاب ألفه عن تاريخ الأحساء، والذي نشر بعد ذلك وهو كتاب (تحفة المستفيد في تاريخ الأحساء في القديم والجديد) والذي أشرف على طبع الجزء الأول منه في مطابع الرياض عام 1379هـ ووضع مقدمته.
وقال إنه أدرك بعد مضي نصف عام أن حالة الفوضى بالمدرسة، وعدم الانسجام بين الأساتذة والمدير، وأن هذه الأمور تقلق الراحة وتبعث السأم في النفس، فكتب للنحاس مستقيلاً وعندما لم يلق إجابة أبرق لمدير المعارف بمكة طاهر الدباغ والذي أبرق بدوره لمعتمد المعارف في الأحساء بالموافقة على استقالته اعتباراً من 8/4/1359هـ.
فذهب ليدرس في مدرسة تحضير البعثات بمكة، وفي العام التالي يذهب مع وزير المالية للخرج ليدرس أبناءه من عام 61 إلى 1363هـ. حتى أنشأ مكتباً لمراقبة شؤون التعليم في المدارس التي افتتحتها شركة (أرامكو) لتعليم أبناء موظفيها.
بدأ حمد الجاسر بالإشراف على التعليم بمدارس أرامكو لأبناء موظفيها وعمالها من عام 1364هـ/1945م، وكان سكنه وزميله عبدالله الملحوق في الخبر لعدم وجود مساكن في الظهران لغير الأمريكان، وتوثّقت علاقة الشيخ حمد بممثّل الحكومة لدى الشركة (سامي كتبي) بالدمام. وعند زيارتهم لما يشبه المدرسة بالظهران وجدوا ثلاثة مدرسين هم: فهمي البصراوي من مدينة جدة، والثاني من أهل المنطقة، والثالث هندي، وكان يقتصر تدريسهم على الكلمات التي يكثر استعمالها في أمكنة العمل.
وقال إنه بمساعدة سامي كتبي - ممثل الحكومة - وصالح إسلام مدير المالية والجمارك، هيئ له وصاحبه سكن في مدينة الدمام التي أصبحت القاعدة وبدأ اتصاله بمجتمع أكثر انفتاحاً وملاءمة لحياته من مجتمع الخبر. وعرف عدداً من مشاهير البلدة، وأكثر التردد على مدينة القطيف التي عرف بعض أدبائها وشعرائها، وقال إنه يأسف على عدم استغلال وجوده هناك لتعلم اللغة الإنجليزية.
منحته البلدية أرضاً وسط البلدة فبنى بها منزله الذي كاد يسقط عليه. فمنحته البلدية أرضاً أخرى في العدامة. وفي حدود عام 1365هـ/1946م عين الأمير عبدالمحسن ابن جلوي أميراً لمقاطعة الظهران التي كانت تسمى إمارة القطيف ومقرها الدمام فشكل لجنة منه وحمد الدوسري شيخ الدواسر في الدمام والسيد سلمان مدير الجمارك للنظر في القضايا العامة وإعطاء رأيهم للأمير قبل الفصل بها، وقال إن أغلب تلك القضايا التي تحال للجنة من أهل القطيف. وهي في الغالب تختص بأملاك أهل القطيف وبيان عدد النخل في كل عقار.. إلى أن قال: إن كثرة تردده على القطيف عَرّفه ببعض الأدباء والمثقفين، ومنهم بطبيعة الحال مدير بلديتها الشاعر خالد الفرج الذي يذهب صباح كل خميس إلى سوق البلدة الأسبوعي، ليلتقي بمجموعة من أدبائها في قهوة بالسوق، فكان الشيخ حمد يحرص على حضور هذا الاجتماع ليلتقي بمن عرف منهم، ولا يعود للدمام إلا في المساء.
ويذكر من باب الطرافة أنه يذهب في أيام الخميس للقطيف فمر بدكان رجل يبيع الكتب القديمة ويدعى علي الكسار، وكان دكانه واسعاً، مملوءاً بالأنواع التي تجلب ذلك اليوم، أقصاه فيه قلال التمر التي يتسرّب منها الدبس، ومن دونها مختلف الأواني القديمة من قدور وغيرها، وبجانب منه كتب منوّعة، مطبوعة ومخطوطة، مركوم بعضها فوق بعض على الأرض. وفي المدخل أنواع الخضر والفواكه الموسمية، والأسماك، الطري منها والمقدد الذي تنبعث رائحته القوية، وكان أمياً، ولهذا فهو يقدّر ثمن الكتاب بأمرين: رغبة المشتري وحرصه، وبحسن مظهر الكتاب، وثقله في اليد، وقد اشترى منه في ذلك اليوم كتابين، وسمكة بطول الذراع طرية، وقُفّة صغيرة وضعت فيها ما اشتريته، وكان الجو بارداً، والوقت ظهراً، وقد أحسست بالجوع، فاستوضحت منه عن مكان عين، ماؤها حار، يذهب إليها أهل البلدة للاستحمام تدعى (خباّقة)، فوصف لي موقعها، فحملت قفتي وذهبت إليها ماشياً، ولما وصلتها وكان الجوع قد أخذ مني مأخذه، جلست غير بعيد عن قبة الحمام، وجمعت من الكرب وعسبان النخل كومة، أشعلت فيها النار، ثم وضعت السمكة قبل أن يُجِّمر الحطب، فانطفأت النار، وثار منها دخان كاد يسدُّ منافذ القبة، فما شعرت إلا بعدد كبير ممن كان داخل الحمام، يخرجون شبه عُراة، مسرعين نحوي، بعد أن أشرقهم الدخان. فلما رأيتهم أقبلوا علي أسرعت في الهرب، فما كان منهم إلا أن أتوا بماء وأطفأوا به النار وتركوا السمكة والقفة، فاحتملتهما وعدت إلى القطيف.
وقال: وعلى ذكر صاحبنا الكُتبي الأمي، كان الأستاذ الشاعر خالد الفرج مقيماً في القطيف، وكانت صلتي به قوية، وقد اقتنى مجموعة من المخطوطات اشتراها من صاحبنا الكتبي الأمي ومن غيره، وله مقطوعة من الشعر لا أحفظ شيئاً منها، ولكنها تدور حول وصف مدينة (حاكمها) أمي، و(رئيس المجلس البلدي) فيها أمي، بل لا يقف الأمر عند هذا الحد، حتى (بائع الكتب) فيها أمي، ومعذرة للإخوة من أهل هذه البلاد، فأنا أتحدث عن زمن مضى، له ما يزيد على نصف قرن، وقد تغير كل شيء الآن.
وقال: ومدينة القطيف من مراكز الحضارة في الجزيرة، وقد حفلت في العهود السابقة بكثير من رجال العلم والأدب والثقافة، ونجد الأصفهاني صاحب كتاب (خريدة العصر) في القرن الخامس الهجري يترجم بعض شعرائها، وكذا ابن معصوم في القرن الحادي عشر، فقد ترجم في (السلافة) عدداً من أدبائها وشعرائها، ومن أبرزهم جعفر الخَطِّي، ولكن عدم تدوين ما يتعلق بالجانب الثقافي بصفة عامة فيها فيما مضى، لانصراف علمائها إلى العلوم الدينية البحتة، كان من الأسباب التي أضفت ظلاماً على تاريخها الأدبي في العصور الأخيرة بخلاف المهتمين بالمباحث الدينية.
وقال إنه قد وجد بالقطيف عدداً من نوادر المخطوطات، وذكر منها مجلد من (مسالك الأبصار) لابن فضل الله العمري يحوي أخبار الشعراء، وأجزاء من (الخريدة) لابن بسام الأندلسي صَوّرتُ صفحات من أحدها، وبعثت به إلى الدكتور عبدالوهاب عزام، الذي كان من المشاركين في نشر الكتاب، وعلمت أن هذا الجزء أهداه الأستاذ خالد الفرج إلى مكتبة الشيخ محمد سرور الصبان.
وقال: ومما اطلعت عليه من مكتبة آل الجشي، وهي من الأسر العريقة في تلك المدينة مجموعة من المخطوطات، منها نسخة قيمة من كتاب (سلافة العصر) لابن معصوم الموسوي، وهي نسخته الأصلية، وفي طرتها ختمه، وكتابات بخطه، وقد عجبت حين رأيت أحد أدبائها ويدعى أحمد المصطفى يقتني كتاب (منهاج السنة) لابن تيمية فقلت له مستغرباً: ألا تعرف أن هذا الكتاب يرد على أصحاب مذهبك؟! فقال لي: أعرف هذا ولكنني أبحث عن الحق مع من كان.
وقال إن علاقته توثقت مع أهل هذه المدينة وذكر منهم عبدرب الرسول الجشي، ومحمد سعيد المسلم، وعبدالله بن إخوان، وعبدالله بن نصرالله، وحسن الجشي الذي قال عنه أنه من ألطف من عرف في هذه البلدة، وأوسعهم إطلاعاً على الثقافة الغربية، فقد أجاد اللغة الإنجليزية، حيث كان موظفاً في شركة (أرامكو) مما مكنه من مواصلة الاستفادة والاستزادة من المعرفة، وقد أسندت إليه وظيفة إدارة بلدية المدينة، وكان أحد أعمامه يتولى رئاسة المجلس البلدي فيها. وذكر أنه قد اشترى من المخطوطات من صاحبه الكسار كتاب (الراموز) في اللغة ومؤلفه معاصر لصاحب (القاموس)، وقد أخذه إلى دار الكتب لمصرية لبيعه عليها حتى يتمكن من العودة له متى شاء ولكنهم قدروا سعره بـ 14 جنيهاً بسبب ما نقل لهم أحمد عبدالغفور عطار من وجود مسودة المؤلف في مكتبة شيخ الإسلام في المدينة المنورة، وهذا ليس صحيحاً.. إذ إن العطار قد ساومه فيه فباعه عليه بمائتي جنيه ليهديه بدوره لمحمد سرور الصبان.
** ** **
باختصار من كتاب سوانح الذكريات لحمد الجاسر - مراجعة وتحقيق د. عبدالرحمن الشبيلي - ج2،ط1، 1427هـ/2006م - الرياض: مركز حمد الجاسر الثقافي