د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ولا يقتصر الأمر على رؤية كل واحد من الطرفين للآخر في روايته للأحداث بل يتجاوزه إلى ما يمكن أن يوصف بمساهمته في صنع الحدث، فإذا عددنا الحدث الذي يسعى كاتبو المذكرات لتدوينه نتيجة لأحداث سابقة له، واعتبرنا الأحداث السابقة تفسيراً له فهي جزء منه. ولأن الأطراف المتنازعة قد ساهمت بصنع الحدث أو -هكذا بدا لها- فإن هذا يعني أن الحدث يختلف عند كل فئة اختلافاً كبيراً عما هو لدى الأخرى، وعليه تأتي الأحداث الواحدة ذات العناوين الواحدة ولكن بتفصيلات مختلفة.
ويمكن أن أضرب على ذلك مثلاً بثورة 23 يوليو إذ يذكر الإخوان أنهم شاغلوا الإنجليز في الإسماعيلية حتى يصرفوهم عن حركة الجيش، وأن عبد الناصر كان إخوانياً، وأنهم قد قاموا بحماية بعض المنشآت بناء على طلب عبد الناصر، فهم الذين قاموا بالثورة، والثورة إخوانية، في حين يذكر بعض فصائل الشيوعيين أن عبد الناصر كان يحضر بعض اجتماعاتهم، وأن بيانات الثورة كانت تطبع بمطابعهم السرية (طبعاً).
وحين يسجل كل طرف شهادته حول حدث ما، ويقدم البراهين التي تؤكد هذه الشهادة، فإن القارئ لا يملك إلا أن يغلب رواية على أخرى، والأمر فيما يتصل بوثائق أجهزة الأمن والاستخبارات أكثر تعقيداً لأنهم لا يتحدثون عن نتيجة مختلفة كما عندما تختلف روايات الفصائل المتعددة. وسأضرب على هذا مثلاً بما سمي ب»الصحوة الإسلامية» أو ازدهار التيارات الدينية في مصر في مرحلة السبعينيات، فبعض المراقبين للحدث التاريخي (والإسلاميين على وجه الخصوص) يرجعونه إلى تطور الحراك الإسلامي في الشارع العربي بناء على التضحيات التي قدمها الإسلاميون أيام عبد النصر ومن قبله، والجهود الكبيرة التي بذلوها جعلت حضورهم في الشارع المصري كبيراً، بالإضافة إلى (طبعاً) «الحق « الذي تتسم به دعوتهم، ويجعل الأنصار يتساقطون بين أيديهم كما يتساقط الفراش على النور، ويرون أن موقف الرئيس السادات منهم نابع عن إيمانه العميق في رسالتهم، وانتمائه في داخله إلى حركتهم، وكأنها نتيجة طبيعية لتراكمات تاريخية وسنن كونية وشرعية.
في حين يرى بعض المتصلين بالأمن والاستخبارات أن ذلك الانتشار والظهور كان ناتجاً عن الإجراءات السياسية والتسهيلات الاجتماعية الكبيرة التي اتخذها الرئيس السادات عند توليه الحكم، وتشجيعه المساجد، ودعم أئمتها، وتكوين الجمعيات الإسلامية، ودعمها اقتصادياً، وإطلاق يدها، ويذكر فؤاد علام أن السادات قد اجتمع بقيادات اٌخوان قبل وفاة عبد الناصر، وأنه بدأ إقامة حلف معهم، نتج عنه إطلاق أيديهم وسائر الإجراءات السابقة، الأمر الذي أدى الانتشار والقبول، كما يذكر أن الدافع وراء هذا الإجراء هو التصدي للقوى السياسية الشيوعية والناصرية التي تعارضه. وهذا الاتفاق يعني خلو الساحة من المنافسين للإخوان المسلمين، والتغطية الأمنية لكل نشاطاتها، بل ربما يدل على أن الزخم الذي تتسم به، والقبول الذي تلقاه لا يعكس حقيقة منزلتها بين الناس، فهذه الحشود المجتمعة صورة من الاتفاق مع السلطة السياسية والأمنية ما يعني أنها حشود مدفوعة الأجر، مما لا يعد مقياساً بحال على قوتها، وعلى انتشار «الصحوة الإسلامية» انتشاراً شعبياً، كما أن محالفة السلطة السياسية لهم لا تعني أنها آمنت برسالتهم، وأصبحت جزءاً من أتباعهم فيعد في إقناع الزعماء، في إنجازاتهم.
فمساهمة رجال الأمن في الحدث (الصحوة الإسلامية، وظهور الإخوان) تعطي مفهوماً آخر له عن النظرة إليه باعتباره منجزاً إخوانياً صرفاً، فهناك فرق أن يكون «الإخوان» أدوات أو أن يكونوا قادة، فالمخطط والمنفذ على المستوى الإشرافي هم رجال الأمن كما في الشهادات الموجودة.
وهذا الأمر ينطبق على الإجراءات التفصيلية للأحداث اليومية، وذلك أن تهيئة الظروف المواتية لحدث من الأحداث تعد في صميم العمل نفسه، بوصفها الأسباب الداعية إليه أو الموجبة أحيانا له، ووسائل تساعد في فهمه، وحقيقة ما حدث.
المشكلة أننا عند الحديث عن الأسباب لا نستطيع أن نحدد أي واحد منها هو السبب الحقيقي الذي أدى إلى النتيجة (الحدث)، فهل (في مثال تطور الصحوة الإسلامية) هو الجهود التي قامت بها الجهات الأمنية بناء على التوجيه السياسي، وعندها يصبح (الإخوان) في الصورة الكلية للمجتمع -كما في التعبير المصري- مجرد «أراجوز» يتحرك وفق رغبة من يمسك بخيوط اللعبة خلف الستار، أو أنه نتيجة الإمكانيات القوية لدى «الإخوان» التي مكنتهم أن يقنعوا السلطة السياسية بالقدرة على مواجهة المد الناصري وملء الفراغ في الشارع الذي سيحدثه إخراجهم، وذلك من خلال خطابهم التعبوي المقنع، وتنظيمهم، وقدرتهم على حشد البسطاء من الناس والعوام، وشحنهم بخطاب حماسي يجعلهم يستجيبون لما يطلب منهم ويتوجهون الوجه المحددة، خاصة وأننا نتحدث الآن بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وقامت الصحوة وفعلت ما فعلت، وأصبح حديث المسؤولين في الأمن حديثاً عن ماض لا نعلم حقيقته، ولا مقداره أو انعكاسه على الواقع المنظور؟
سنكمل في المقال القادم.