د. عبدالحق عزوزي
تعد عملية التنظير عماد العلم الحقيقي والوحدة الأساسية في نسق التفكير العلمي، فلا يوجد علم دون نظريات علمية، فالمعرفة التجريبية أو الميدانية تستلهم النظريات العلمية، كما أن نتائجها قابلة للتحول بدورها إلى نظريات علمية. ولقد أُعطيت للنظرية عدة تعريفات، منها: «بناء تصوري يبنيه الفكر ليربط بين مبادئ ونتائج معينة»، وأنها: «إطار فكري يفسر مجموعة من الحقائق العلمية، ويضعها في نسق علمي مترابط» وأنها «تفسر ظاهرة معينة من خلال نسق استنباطي»، وأنها «مجموعة من القضايا التي ترتبط معاً بطريقة علمية منظمة، التي تعمل على تحديد العلاقات السببية بين المتغيرات»، وعرفت بأنها: «عبارة عن مجموعة مرتبطة من المفاهيم والتعريفات والقضايا والتي تكون رؤية منظمة للظواهر عن طريق تحديدها للعلاقات بين المتغيرات بهدف تفسير الظواهر والتنبؤ بها»... ومن هنا النظريات والمبادئ في السياسات الخارجية التي تعتبر أنساقا فكرية تفسر مجموعة من الظواهر، وتكون ذات حمولة استراتيجية محددة المعالم والتوجهات، تساعد متخذي القرار على تقوية سياستهم الخارجية وجعلها في منأى عن الهفوات والأخطاء.
في رسالة كان قد سلمها إلى الكونجرس الأمريكي في الثاني من ديسمبر 1823، أعلن الرئيس الأميركي جيمس مونرو عن «مبدأ مونرو» القاضي بضمان استقلالية كل دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي، بمعنى أنه لن يسمح بتكوين مستعمرات جديدة في الأميركتين، كما لن يسمح للمستعمرات الأميركية التي كانت قائمة بالتوسع في حدودها، وكل ذلك باسم عدم التدخل وعدم الاحتلال، وقد أعطى هذا المبدأ نتائجه المرجوة.
وفي مارس 1947، أعلن الرئيس الأميركي هاري ترومان عن مبدئه القاضي بمساعدة الشعوب الحرة التي تكافح ضد الخضوع للأقليات المزودة بالسلاح أو الضغوط الخارجية، «لأن بذور الأنظمة الشمولية الديكتاتورية -حسب تعبير ترومان- تغذيها دائماً عوامل الفقر والحاجة، وتصل إلى قمة تطورها ونموها حين يموت أمل الشعب في تحقيق حياة أفضل، ويجب علينا أن نبقي على هذا الأمل حيّاً في النفوس»؛ وكان لمبدأ ترومان الفضل في نشر الوعي لدى الشعب الأميركي على ضرورة قبول مسؤولياته في الدفاع عن الشعوب المستضعفة، وإظهار استعداد أميركا لمعارضة «تكتيكات المسالمة»، وإيقاف الانتصار الشيوعي المتوقع في اليونان بعد قرار الحكومة البريطانية قطع المعونة عن هذا البلد وما كان قد سيترتب على ذلك من نجاح الشيوعيين في كل المنطقة.
ثم جاء مشروع مارشال في يونيو 1947، حين عيّن ترومان الجنرال جورج مارشال وزيراً لخارجيته، وأعلن عن مبدئه الهادف إلى مساعدة أوروبا اقتصاديّاً، وهذا ما حدا بوزير الخارجية السوفييتي الشهير «مولوتوف» للتصريح بأن مشروع مارشال يُعّد نوعاً من الاستعمار الجديد.
وبموجب مشروع مارشال أنفقت أميركا ما يزيد عن 12 مليار دولار لدعم اقتصادات أوروبا الغربية، وكانت لهذا الدعم الأميركي نتائج ملموسة ليس على الاقتصاد فحسب بل وحتى على الاستقرار السياسي في الدول الأوروبية.
وفي سنة 1968، أعلن الاتحاد السوفييتي البائس عن مبدأ بريجنيف نسبة للزعيم ليونيد بريجنيف، وهذا المبدأ هو شبيه بمبدأ ترومان ولكن في الخط المعاكس حيث يسعى إلى دعم كل التوجهات المعادية للمصالح الغربية والتدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول؛ وكان من نتائج ذلك، تطوير التقارب السوفييتي -الكوبي والتدخل السوفييتي في براغ سنة 1968 وغزو أفغانستان عام 1979.
وفي سنة 1989، جسدت شهادة وفاة الحرب الباردة في مبدأ فاجأ العالم، عندما سئل الناطق الرسمي باسم جورباتشوف، عن مدى فعالية مبدأ بريجنيف فيما يقع من موجات ديمقراطية في كل من هنغاريا وبولونيا، فأجاب الناطق الرسمي بأن المبدأ الذي يجب أن يطبق هو مبدأ «سناترا»، وهذا ما ولّد موجات من الديمقراطية في أوروبا الشرقية.
إن كل هذه النظريات أو المبادئ وغيرها، التي غالباً ما كانت تأخذ أسماء مفعليها، كانت لها تأثيرات مباشرة على القضايا التي تناولتها بل وأثرت على مجريات التاريخ لعقود عديدة. أما اليوم فلم نعد نشهد مثل هاته المبادئ والنظريات، ولم تستطع القوى الدولية إلى حد الآن صياغة مبادئ تاريخية كبرى مع أنها تعج بالمنظرين في العلاقات الدولية، وتعترف اليوم الدول العظمى أنها تتعامل مع أوضاع تاريخية سرعتها غير متوقعة، وترد على كل ما حدث عندما يقع، بمعنى التعامل كردة فعل لواقعة بدلاً من التفكير أو اتخاذ أي دور قيادي فيه...