كانت ليلة لن تنسى.. ليلة ماطرة، تنزلت فيها رحمات ربي، فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
توفي أبي في تلك الليلة -رحمه الله رحمة واسعة-، فالحمد لله أن كنا معه وحوله، والحمد لله على وجود ذوي القربى من الرجال. عندما ساءت حالته -رحمه الله- اتصلنا بالإسعاف فأرشدونا إلى تنشيط قلبه بينما يصلون للموقع المحدد، وما كانت إلا دقائق حتى وصلوا مشكورين، كما وصلت روح أبي إلى بارئها في تلك الدقائق -رحمه الله رحمة واسعة-.
فعلوا ما تطلّب منهم النظام، تأكدوا من وفاته عن طريق جهاز يقيس النبض ثم تركوه! قالوا: (نحن لا ننقل أمواتًا؛ نحن جهة تسعف!!).
- حسنًا ما العمل؟ من الجهة المختصة؟
- الشرطة، حتى تتأكد من عدم وجود شبهة جنائية!!!
كان التعليل في نظرنا غريبًا، لا منطقيًّا، الرجل متوفى -رحمه الله-، وأهل الرجل في صدمة -جبر الله مصابهم- وتطلبون منهم التواصل مع الشرطة والتصرف وهم في حال لا يعلمه إلا الله؟!
ثم إذا كانت هناك احتمالية شبهة جنائية، أما يكون من الأحوط أن تتصلوا أنتم أيها الإسعاف بالشرطة، كجهة رسمية تبلّغ جهة رسمية؟! كما يحدث إذا وصلت حالة جنائية إلى المستشفى؟! ولكن تركونا وذهبوا.
ثم تبدأ الرحلة مع الشرطة التي أبت أن تأتي لأنه ليس هناك جناية تستدعي الحضور! حسنًا، ماذا بعد ذلك؟ أي جهة رسمية نتواصل معها لإكرام الميت؟ فدلنا أحد أفرادها إلى فاعل خير، -وهنا أتوقف بضع كلمات للدعاء له ولأمثاله من المسلمين (اللهم فرّج عنه كل كربة وهم)-، أعود لأقول إن هذا الفرد بتصرفٍ إنسانيٍّ -جزاه الله خيرًا- دلنا على فاعل الخيّر الذي جهّز سيارته الخاصة لنقل الموتى من منازلهم إلى المستشفى، ويساعد على إكمال الإجراءات الرسمية تعاونًا منه وكرمًا وابتغاء أجر من رب العالمين لعلمه وإحساسه بما يمر به أهل الميت في تلك اللحظات.
توفي الوالد -رحمه الله- قرابة الساعة الثانية عشرة والنصف صباحًا، وحملنا جثمانه الطيب العطر إلى المستشفى الساعة الثانية صباحًا!! لم نكن في منطقة مقطوعة، ولم نكن على الطريق السريع، ولم نكن بعيدين عن المستشفى، بل كانت الإجراءات التي أخرتنا!!
أما بعد هذه التجربة -لا كررها الله لنا ولا خضتموها- فأقول..
الحمد لله أن كان بيننا رجالٌ من الأسرة، تحركوا وتصرفوا حتى جاء من يحمل الجثمان الذي لم نشبع من حضنه وتقبيله، والحمد لله على أن سخر الله لنا في هذا الوقت المتأخر من الليل فاعل خير لحمل المتوفى -رحمه الله-، لكن! هل يعتمد الإنسان على الصدف؟ الموت لا ينتظر، ونقل المتوفى في بيته إلى المستشفى لإثبات الوفاة ليس من اختصاص الإسعاف ولا الشرطة! إذن، كيف يتصرف من كان الميت عائلهم الوحيد وترك إناثًا وأطفالاً؟ وكيف يتصرف من لم يجد فاعل خير ولم يجد وسيلة نقل تناسب جثمان الميت؟
ألا تكون هناك جهة رسمية متخصصة، مهيأة لنقل الجثامين سواء من منازلهم أو من الطرقات؟ وتكون أرقامها معروفة لدى الجميع مثل أرقام الإسعاف والشرطة والدفاع المدني وغيرها من الجهات؟
ألا تكون هناك جهة تدعم فاعلي الخير أمثال من أوجده الله لنا تلك الليلة وتكون أرقامهم معروفة لدى الجهات المختصة، الشرطة أو الإسعاف أو أي جهة يتم الحصول عليها بيسر وسهولة تراعي الوقت العصيب الذي يمر به أهل الميت؟
ولماذا لا تكون فرقة متخصصة تأتي للمنازل تضم مسعفين، وشرطيين ومن يُحتاج إليهم في هذه الظروف، والتصرف بحسب الموقف، فإن احتاج لإسعاف نقلوه للمستشفى، وإن احتاج لإثبات وفاة نقلوه أيضًا إلى المستشفى بعد التأكد من خلو الحالة من شبهة جنائية!!
قبل كتابتي لهذا الطرح بحثت لعل وربما كانت هناك جهة معتمدة ولكن جهلناها، أو طريقة ما رسمية ولكن ما علمناها، فتفاجأت بأن هذه المشكلة منذ أزل ولم يُطرح لها حلٌ إلى الآن.
أكتب تجربتي هذه لعلها تجد حلاً وطريقة لإكرام موتى المسلمين -رحمهم الله-، وتفرج كربة أهاليهم.. قال -صلى الله عليه وسلم-: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». رحم الله موتانا وموتاكم وموتى المسلمين.. آمين.