د.علي القرني
بدأت مظاهرات متفرقة في عدد من المدن الفرنسية خلال الأسابيع الماضية، ولكنها انتقلت هذا الأسبوع إلى باريس العاصمة الفرنسية، وتحديداً في شارع تشانزليزية قريباً من قصر الأليزيه، وكانت تستهدف الوصول إلى القصر حيث يوجد الرئيس امانويل ماكرون. وتنطلق هذه المظاهرات على خلفية الوضع المعيشي للشعب الفرنسي وخاصة الشباب، وكذلك ارتفاع أسعار الوقود وأمور أخرى. وهذه المظاهرات تذكرنا بمظاهرات 1968م التي هزت فرنسا وأوروبا والعالم في ذلك الحين.
اذا كانت فرنسا تتذكر الثورة الفرنسية التي دامت عشر سنوات منذ 1789م، فهي تتذكر أيضاً انتفاضة مايو 1968م، التي كان يعدها مؤرخون وكتاب وصحافيون ثورة ثانية في فرنسا. احداث صيف 68 هزت المؤسسة الفرنسية من أقصاها إلى أقصاها، وكانت على شكل احتلال الطلاب للجامعات، واضرابات عمال في كل الأنحاء ومظاهرات في الشوارع في عموم فرنسا وخاصة باريس، وتحديداً في الحي اللاتيني، مما اضطر الرئيس الفرنسي تشارلز ديجول أن يغادر قصر الإليزيه لساعات وبلغ صهره أنه لا يريد أن يهاجم المتظاهرون القصر، لأنهم لن يهاجموا قصراً ليس به أحد، واختفى ديجول لساعات فقط ولم يعرف أحد عنه، لأنه غادر إلى قاعدة عسكرية فرنسية في ألمانيا. وحينها صرخ رئيس الوزراء بومبيدو لقد هرب الرئيس، وزادت الإشاعات، ولكن سرعان ما عاد الرئيس ديجول إلى باريس وأمر بحل البرلمان وجدول الانتخابات في فترة قصيرة، مما امتص غضب المتظاهرين والمضربين وبدأت تعود الحياة إلى طبيعتها تدريجياً، ولكن شكلت هذه المظاهرات ثورة ثقافية جديدة في الحياة الفرنسية.
وكانت مظاهرات فرنسا 1968 ربما تحت تأثير مظاهرات أخرى اجتاحت أمريكا وكثيراً من الدول الغربية وهي المظاهرات المنددة بحرب فيتنام والتدخل العسكري الأمريكي في فيتنام، وهذه المظاهرات بدأت بشكل مصغر عام 1965م ولكنها انتشرت في الأعوام التالية حتى عام 1973م عندما اضطر الرئيس الأمريكي نيكسون إلى إيقاف الحرب. ومظاهرات فيتنام كانت الخلفية لمظاهرات باريس 1968م.
وهناك محللون بدأوا يفكرون في المظاهرات الحالية، وهل تتصاعد وتتفاقم خلال الأسابيع المقبلة في الذكرى الخمسين لمظاهرات 1968م؟ وهذه المظاهرات تتصاعد حيث تصل الآن إلى آلاف، ومتوقع انها تستمر بنمط تصاعدي عددياً ومضموناً خلال الأسابيع المقبلة. فهل تهتز باريس مرة أخرى بسبب هذه المظاهرات؟ هذه أسئلة تجيب عليها المؤسسات الفرنسية.
ويظل السؤال يتدحرج هل لأسعار النفط دور في إثارة مثل هذه المظاهرات؟ بكل تأكيد لها دور، فالحركة التظاهرية الحالية في فرنسا تسبب احتجاجاتها على أسعار الوقود المرتفعة، ولهذا فقوة دول النفط في العالم لها تأثيرها الكبير على استقرار الدول الغربية، ويجب أن تدركها جيداً هذه الدول. ولا شك أن النفط لا يخضع للتسيس كما تؤكده دائماً القيادة السعودية على مرور العقود الأربعة الماضية، ولكن الدول الغربية تدرك تماماً أن استقرار تلك الدول هو مرهون باستقرار أسعار النفط، الذي تتحكم به دول أوبك ودول نفطية أخرى.
وعموماً فرنسا تنتظر هذا الأسبوع والأسابيع المقبلة تداعيات هذه المظاهرات على السياسة الاقتصادية بالتحديد، وخطورة هذه المظاهرات ركوب فوضويين هذه المظاهرات وتحولها إلى عنف من إحراق سيارات وشاحنات وتحطيم منشآت خاصة على الشوارع التي تمر بها هذه المظاهرات. ويتخوف الفرنسيون من مثل هذه المظاهرات الفوضوية التي قد تنمو مع الوقت ويتزايد المشاركون فيها إلى أن تصل إلى حد يهدد الأمن العام في فرنسا ويؤثر بالتالي على السياسة الاقتصادية للحكومة الفرنسية.