د. محمد عبدالله العوين
هاتفني صديق عزيز لم أره ولم أسمع صوته منذ أكثر من ثلاثين عامًا. كان تواصلنا عن طريق رسائل الجوال في المناسبات المتباعدة، وفي حالات صفاء وارتياح نادرة، لكنه على غير عادته اتصل بي، وسمعت صوته يرن في أذني. هذا هو عبد الرحمن الذي أعرف نغمات صوته حين كان يعلو مستنكرًا مزحًا ثقيلاً من أحد الزملاء، وهو صوته الخجول حين يمر على المكاتب محييًا. أهلاً وسهلاً أيها الغائب البعيد القريب، هل أنا الغائب أم أنت؟ هل أنا المقصر أم أنت؟ هل أنا من جفا أم أنت؟ وهل هذه القطيعة القاسية المنكرة بيننا اقترفتها أنا أم أنت؟ ما الذي جعلنا قساة جفاة متقاطعين يا صديقي؟ هل هو الغنى الذي اقتحم عالمك الفقير المكدود المحدود المنهك على حين غرة؟ أم هي الوظيفة الممتازة الكبيرة التي رفعت من ذكرك وكونت لك عالمًا آخر مرموقًا رفيع الشأن، لا يعلم شيئًا عن نشأتك الأولى البائسة اليائسة المغمورة في ذلك الحي القديم من أحياء الرياض؟!
رن صوته في أذني فهاجت بي موجة عالية من عتاب، وتدافعت صور عذبة من الذكريات تمرُّ أمامي في مشاهد سينمائية مشهدًا مشهدًا. كان فقيرًا، وكنت مثله، وكان صغيرًا في وظيفته، وكنت مثله، وكان قليل ذات اليد، وكنت مثله، وكان مغمور الذكر بين الناس، وكنت مثله.. فأقبل عليه الحظ، وارتقى من المراتب المتدنية في سلم الوظيفة إلى قريب من قمة السلم، وانفتحت عليه أبواب الرزق؛ فاغتنى بعد فقر وفاقة، وارتفع ذكره في محافل عِلية القوم.. نسي عالمه القديم الذي مضى عليه ثلاثة عقود أو تزيد.. تغير وتغيرت معه الحياة، وتغيرتُ معه؛ فلست أنا صاحبه القديم الذي كان يعرفه، الذي كان يقاسمه سندوتش الكبدة والبيض، يأتي به العم سالم. لم يكن ذاك الإفطار المتواضع الذي لا يزيد ثمنه على أربعة ريالات في ذلك الزمن من بوفيه اليماني الملاصق لمبنى الصحيفة مجرد وجبة تدفع الجوع، بل كانت منادمة صباحية مبهجة ضاحكة متفائلة مدفوعة بتوقد الشباب والإلحاح على النجاح والتميز والتحدي.. يا لها من ذكريات تمرُّ أمامي في هذه اللحظة المختطفة من عمر الزمن، وكأنه توقف عن الكلام؛ كي أتأمل وأقرأ صفحة تلك الأيام الجميلة في الصور المتلاحقة المتسارعة مع نبضات صوته.
يا عبد الرحمن ما الذي غيَّرك يا صديقي؟ بل ما الذي غيَّرني أنا أيضًا أيها العزيز؟ لقد كبرتَ أنت وكبرتُ أنا، واغتنيتَ أنت واكتفيتُ أنا، وحققتَ كثيرًا من آمالك كما حققتُ أنا؛ فهل أنساك ذلك كله أجمل وأرق وأعذب سنوات العمر في ممرات ومكاتب الجريدة؟
تقول: هل يمكن أن تجمع لي أصدقاءنا القدامى؟!
ياه.. لقد أصابهم ما أصابك، ونسوا كما نسيت ملامح بعضنا إلا من خلال رسائل الواتس.
إنه زمن القطيعة الموحش، والفاعل الآثم هو (التقنية).