د. محمد عبدالله الخازم
عند عمر معين نبدأ نتأمل التغير الذي يحدث في حياتنا، وتبدأ الأسئلة الثقافية تموج في دواخلنا، وأحد الأسئلة التي تراودني؛ لماذا نلحظ تناقص جرأة المثقف وتبدل بعض مواقفه كلما تقدم به العمر؟ ما الذي حدث لفلان وعلان من المثقفين، نكصوا بعد أن كانوا رؤس حربة ومشاعل جريئة في حركة التنوير؟
السؤال هنا لا يتعلق بطريقة الطرح واللغة فهذه أمور ليست ثابتة وتتغير عطفاً على معطيات متنوعة ولكن الأمر يتعلق بالمواقف والرؤى الجوهرية كأن يتحول من موقف الناقد إلى موقف المادح الدائم أو كأن يتحول من موقف الإيمان بفلسفة معينة إلى فلسفة نقيضة وهكذا. على سبيل المثال قد ترى المثقف في شبابه يؤمن بمبادئ وعندما يكبر في السن تتوقع أن يكون أكثر تحرراً من الضغوط فيصبح أكثر وضوحاً في تعبيراته في هذا المجال، إلا أنه يحدث العكس فيصبح على النقيض. تتوقع أنه مع التقدم في السن يزداد تحرر الإنسان بصفة عامة والمثقف بصفة خاصة من ضغوط الوظيفة التي كانت تجبره على المداهنة والمجاملة مثلاً أو ضغوط المنصب الذي كان يشغله أو يحلم به، أو غيرها من الضغوطات المعيشية والاجتماعية التي لا شك تؤثر في مواقف المثقف. لكن ما يحدث هو أن تجد بعض المثقفين ينقلب على مشروعه الثقافي أو فلسفته التي عمل عليها وبناها سنوات طويلة في حياته، فيتحول إلى النقيض منها. بعضهم يكتفي بالعيش على أمجاد الماضي وبعضهم لا يتورع في إعلان الانقلاب حتى على ماضيه!
ترى ما هي الأسباب لذلك؛ هل لأن المثقف أساساً لم يكن لديه مشروع أو رؤية فكرية واضحة وما بناه من نضال أو كفاح في سبيل الدفاع عن بعض الأفكار كان مجرد ضجيجٍ ولا يعبر عن مواقف عميقة يؤمن بها؟ هل الإنسان مع الكبر يصبح خائفاً أكثر فيتحول نحو المناطق الدافئة والآمنة التي تجنبه الإزعاج، باعتبار أن المثقف الحق هو من يملك رؤى متفردة لا تهتم بمسايرة القبيلة والمجتمع والفئة وما في حكمها، وإنما تعبر عن استقلاليتها وتفردها؟ هل هو اليأس بحيث يشعر المثقف بعد تجربة أن لا جدوى من إعلان مواقف وتبني مشاريع مختلفة ومن الأفضل مسايرة التيار لتحقيق ما يمكن تحقيقه من مكاسب مادية؟ هل هي الأبوة أو الأمومة التي تجعل المثقف يهتم باستغلال رصيده السابق في خدمة الأبناء والأحفاد ولو كان ذلك على حساب التخلي عن أفكار كبرى كان ينافح عنها طيلة من عمره؟
لست محللاً (سيسولوجياً) وربما أكتب قلقاً، هل سيخمد فكري وتنقلب مواقفي المختلفة عما قريب مثل غيري؟ أطرح الأسئلة وأنا ألحظ بعض النخب التي كنت منبهراً بصمودها ودفاعها عن مشاريع تنويرية، لم تعد كذلك، بل وبعضها أصبح يخذلنا في المواقف التي كنا نشترك فيها بعد أن كنت أعتقده نموذجاً داعماً ومسانداً. ربما يكون هناك تحليل أكثر عمقاً يساعدني على فهم هذه الظاهرة وهل هي حتمية في مجتمعنا؛ عودة المثقف بعد مرحلة الصعود للنكوص والتراجع في مواقفه الثقافية والتنويرية والفكرية؟