عبده الأسمري
نسمع كثيرًا عن الحرية وتتعدد مفاهيم البشر كثيرا بشأنها.. البعض يربطها بالدين وآخرون بالأنظمة والقوانين ونوع أخير يفهمها وفق الأهواء الشخصية.. ووسط كل ذلك تظل الحرية مكفولة في ديننا الإسلامي ووجهت شريعتنا الإسلامية باحترامها وفق نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة..
ما أود قوله إن الحرية منبع فطري مرتبط بالإنسان مترابط مع مكوناته واحتياجاته وتطلعاته.. وما بين التفكير والتدبير تقع الحرية تحت طائلة «الشفاعة الذاتية» التي قد تؤول بصاحبها إلى وسطية تصنع له الحياة المطمئنة أو تطرف ينقله إلى أطراف بائسة من التشدد المحرم أو التمدد المنحرف.
الحرية مفهوم دقيق يراه البعض في إطارات «الاتساع» ومسارات «السعة» بينما ينسى المنادين به أن هنالك «أمورًا ممنوعة» تظل من حقوق البشر التي تكفلها لهم حريتهم أيضًا التي يجب أن لا تصطدم بحريتك أو حرية غيرك.
الحرية خروج من غياهب «الجهل» إلى مسارب العلم ومشارب المعرفة في حين أنها لو تجاوزت المألوف أو المعروف لكانت «جنونًا» مغلفًا بنداءات جاهلة لا ترى للنور مكانا لسيطرة الظلام على فكر صاحبها.
نقرأ كثيرًا في كتب العباقرة والعلماء والأدباء ولكننا لم نحاول ذات يوم الخوض في تفاصيل شخصياتهم في قراءة مستفيضة لسيرتهم في وقت ما زلت أتساءل بل وأرى ضرورة وجبرية أن يكتب تلامذة هؤلاء العظماء سيرتهم حتى يكتمل مشهد الإنتاج مع صاحبه للوصول إلى سؤال بشري بريء.. كيف أنتجت هذه النماذج ذلك التراث المعرفي الهائل الذي ظل لعقود يستعمر المكتبات ويحتل العقول ويمتع الأفئدة.
سألت نفسي هذا السؤال وقرأت كثيرًا في سيرهم وفي مسيرتهم ووسط إنتاجهم وقادني السؤال لسؤال تلامذتهم تاركا الاستنتاج لنفسي بعيدًا عن أهواء الآخرين أو فضول تساؤلاتهم نحو سؤالي وتوصلت إلى أن «الحرية» كانت خلطة سرية للإنتاج ووصفة سحرية للعبقرية المذهلة.. ولكنها ليست الحرية الدارجة بل إنها حرية جعلت هؤلاء المؤلفين يقفزون من فوق أسوار الروتين الاجتماعي ويرتقون بفكرهم عن حواجز الحياة الاعتيادية.. جعلتهم «الحرية» يرسمون خارطة الإبداع بأقلامهم حيث وضعوا لوقتهم خططًا إجبارية ووقعوا إمضاءاتهم على أوراق التاريخ بالمعرفة والتفكير والتدبر.. تركوا الفارغين في حلقات إهدار الوقت والتجادل والجدال ثم خططوا هم لصناعة أدوات التعلم.. كانت الكتب أصدقاءهم والمتشابهون في سماتهم رفقاءهم.. غادروا مدرجات الاجتماعات البائسة وعاقروا الكتب بحثًا عن التطوير.. واستقروا في مأمن من ترهات الجدل مع الآخرين أو تضييع الوقت في مراقبة الغير.. كانت رقابتهم ذاتية مرتبطة بنتاج سيظل شاهد إثبات على التميز.
الحرية.. مبدأ عظيم يجب أن يكون أسلوب حياة وسلوك عيش شريطة أن لا تتم حياكة ردائه وفق ما يريد الغير أو صياغة تفاصيله كما يرغب الآخرين.. حريتك صناعتك أنت وصياغتك أنت وحياكتك بمفردك.. لذا فإنك وحدك من ينال نفعها وبنفسك من تدفع الثمن إذا خالفت المنطق بغلبة أهوائك..
الحرية.. يقين بالعيش وفق مقتضى حياة آمنة تفتح من خلالها النوافذ على ساحات التجديد والابتكار.. تنطلق منها إلى حيث الدروب المفروشة بالجد والود لنفسك ولأحلامك..الحرية هي أداتك «المثلى» لترك بصمتك واضحة ثابتة على صفحات حياتك.. فضع لها إطاراتها المؤطرة بحدود فكرك المفتوحة المتوازية مع خطوط لا تنتهي من التطور والتطوير في العطاء والتعاطي.
مشكلتنا مع «الحرية» أزلية وعميقة صنعتها مسارح من الجدال العقائدي ومصالح للتجادل الفكري.. صنعوا حولها الشبهات.. ظلم هؤلاء الحرية في منابرهم ووسط حلقات نقاشهم.. وبين هذا وذاك جاءنا ناشطون وناشطات ومتفيقهون وتافهات استغلوا «الحرية» فكانت وسيلتهم الوحيدة للشهرة.. تجاوزوا المنطق وشتتوا فكر الناس حول معنى «الحرية» الأصيل.
نحتاج تثقيفا دينيًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا وثقافيًّا مشتركًا يعرّف الحرية وينبه المجتمع بحدودها وما مدى ارتباط الحرية الوثيق بالإنجاز ووثاقها المتين بالنجاة من الجمود الاجتماعي والتجمد النفسي الذي جعل الحياة في قطبية سالبة وتطرف سلبي نحو تشدد بائس أو تحرر مخجل.