أ.د.عثمان بن صالح العامر
أن يطيع الابن أباه، ويحترمه ظاهرياً، أمر مألوف ومعتاد غالباً في مثل مجتمعنا السعودي الذي يدين الابن لله بذلك إيماناً منه بأنه قضاء الله النافذ الذي لا مندوحة عنه، وأنه الحق الثاني المتعلق بذمته بعد حق الله عز وجل، ولذا فهو واجب الوفاء على كل حال، ولكن محبة الأب وتعلق الابن به واعتباره مثله الأعلى وقدوته التي يقتفي أثرها في سلوكه الحياتي ومحل إعجابه المطلق، والشخصية التي يتحدث عنها بكل فخر واعتزاز عند كل أحد وفِي كل مناسبة ليس بالأمر الهين ولا هو مسلم به عند الجميع، وذلك لأن هذا الأمر القلبي لدى الابن له ما يعززه ويقويه من قبل الوالد، فمتى كان الأب قريباً من أبنائه، يتعامل معهم بثقة وأخلاق، ويحترم مشاعرهم، ويراعي احتياجاتهم الأساس بعيداً عن الإسراف والتبذير، ويشاركهم في رسم ملامح مستقبلهم بوعي وإدراك، ويتواكب مع مستجدات عصرهم بعقلية متفتحة وأفق واسع، ويخلص لهم النصح الذي يكتشفون بأنفسهم أن فيه الخير لهم ولو بعد حين، كل هذا الصنيع من قبل الأب مدعاة للتعلق والمحبة القلبية العميقة من قبل الأبناء التي تبقى حتى ولو رحل الأب عن هذه الدنيا، ليس هذا فحسب بل إن سمعة الأب في المجتمع المحيط، وإنجازه المتميز في مجال عمله أياً كان، وأفعاله الخيرة، وأعماله الطيبة، وصنائع المعروف، والذكر الحسن، كلها ذات أثر مباشر لتعلق الآخرين فيه فكيف بالأبناء.
هناك من الآباء من ينشد التعلق القلبي به، والحب العميق له من قبل أبنائه وأحفاده وينسى أو يتناسى واجب العدل بينهم، يفضّل بعض الأبناء على البعض الآخر خاصة إذا كانوا من زوجتين أو أكثر، ويطلب من أحدهم ما يرهقه من الأعمال دون مقابل، والعطاء والبذل منه لغيره، وهذا وإن لم يظهر أثره في تصرفات وسلوك الابن البار فإنه قد يوغر صدره وينزع من قلبه الحب الذي هو محل الحديث.
إن العدل والمساواة ليست مطلباً مثالياً في دنيا الناس - كما يظن البعض - بل هو وهي أمر واقعي يجب أن يبدأ أولاً داخل الكيان الأُسري حتى يعم المجتمع كله، وهو وهي البوابة الأهم لقلوب الأولاد والأحفاد، فضلاً عن تمثل الأب والتزامه بأخلاق القدوة في تعاملاته وأفعاله وأقواله كلها، فالصغار يحاكون الأفعال وتؤثر فيهم أشد من الأقوال كما هو معلوم.
قد يظهر لك الأبناء المحبة والإعجاب لأي سبب من الأسباب، ولكن هذا الأمر سرعان ما يرحل ويزول إذا لم يتمكن من شغاف القلوب التي هي المستقر الآمن للحب الحقيقي، ولذا لابد من أخذ هذه الوصفة المجربة من قبل أناس خبروا الحياة وعرفوها وربما رحلوا عن هذه الدنيا وبقي تعلق الأبناء بهم، والتمتع بالحديث عنهم، والافتخار بشخصيتهم وبما أنجزوه وفعلوه حين كانوا على قيد الحياة، خلاف فريق آخر انشغل بقسمة الميراث، واللهث وراء المال عن الدعاء لأبيهم والترحم عليه والوفاء له بالبر به ووصل أرحامه وأصدقائه والتصدق له في وجوه الخير المختلفة، لا لشيء إلا لأن الأب لم يكن ذلك الرجل الذي عرف هذا السر وعمل على تطبيقه حين كان حياً قادراً على الفعل.
إن العمر الثاني للإنسان لا يتحقق بكثرة المال الذي يتركه الأب خلفه - كما يظن البعض - بل ربما كان هذا المال هو سبب نسيان الأب ونشوب الخلاف بين الأبناء وإيغار الصدور حين القسمة، العمر الثاني لا وجود له حقيقة إلا باكتشاف هذا السر والعمل على تمثله حتى يكون الواحد منا حياً في قلوب أولاده وأحفاده وهو في قبره، وهذا سبب مباشر في تحقق صالح الولد الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... وولد صالح يدعو له)، أسأل الله العلي القدير أن يرزقني وإياكم محبة الأبناء والأحفاد والنَّاس من خلفهم، وإلى لقاء والسلام.