د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
وسائل التواصل الاجتماعي، أتاحت للفرد إذاعة ما يريد مباشرة، وحولت العالم لقرية إعلامية صغيرة، حسب ماكلوهلن، أفصحت عن أمور كثيرة من أهمها تناقض الأخبار وتعارضها وتفشي الكذب والانتحال بالأشكال كافة حتى أمكن القول إن العالم تحول «لقرية كاذبة».
ولو قيض لفيلسوف التنوير الأشهر الفرنسي رينيه ديكارت العيش معنا اليوم لاستبدل الكوجيتو الشهير: «أنا أشك إذاً أنا موجود»، بكوجيتو معاصر وأكثر مناسبة: «أنا أكذب إذًا أنا موجود».
والكذب خاصة إنسانية يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، حيث كشفت الدراسات أن بعض الحيوانات تكذب بشكل فطري من أجل البقاء بالاختباء أو تلافي الخطر، لكن الإنسان تفوق بشكل أكثر تطورًا فيما يتعلق بفنون الكذب، وقد زادت تفوقه ملكته اللغوية التي تميزه عن الكائنات الأخرى بتطوير ملكته في الكذب، فقد حدد عالم اللسانيات «تشالز هوكيت» سمات اللغة البشرية بسمات سبع من أهمها القدرة على الحديث عن غير المنظور، والقدرة على الكذب. وتاريخنا البشري يزخر بالشخصيات التي خلدت لقدرتها على الذب: السليك بن السلكة، مسيلمة الكذاب، جوبلز، راسبيوتن، وهناك آخرون يفوقونهم من المعاصرين. ويقال إن أنجح الناس في الكذب من جعلوا الفضيلة غطاءً له.
الكذب فطرة في الإنسان، وإلا لما حذرت الكتب السماوية منه. فقد ورد في القرآن: «إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب»، س. غافر؛ «وَاجتنبوا قول الزور»، س. الحج؛ «ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين» س. الزمر. وقال الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». والتوصية التاسعة من التوصيات العشر في المسيحية، وهي عشر توصيات يعتقد المسيحيون لأهميتها أن الله كتبها بيده، تأمر الإنسان صراحة ومباشرة: «لا تكذب». فهذا المقال ليس دعوة لكذب، ولا تحبيبًا فيه، وليس تمليحًا له.
الكذب خاصة إنسانية؟ نعم! وتصنيفات الكذب التي يمارسها الإنسان أكثر من تصنيفات الصدق: كذب أبيض، كذب بريء، تمليح، تلميع، تبهير، تملق، نفاق، تطبيل، خداع، ادعاء وتكاد القائمة لا تنتهي. ودوافع الكذب لا حصر لها أيضاً: تضخيم الذات، تضخيم المنافع، تغطية أمور غير محببة، الكذب الرومانسي والكذب العلمي، الكذب على الذات، الكذب على الآخر الخ. بل إن البشر جعلوا للكذب يومًا خاصًا كيوم الشكر، ويوم الأم، ويوم الأب ألا وهو يوم كذبة إبريل، حيث يحتفل بها البعض بالكذب على من يحب. وهناك ممارسات كذب تعد يومية ولا يدخلها الناس في باب الكذب منها الكذب الأسري، والكذب الاعتذاري في العمل، والكذب التجاري وهذه لا يدخلها البعض في باب الكذب. وطلب بحث في كاليفورنيا من 140 طالباً في إحدى الجامعات تسجيل عدد المرات التي يكذبون فيها، وأبرزت النتائج أن معدل كذبهم كان مرتين إلى ثلاث في اليوم.
وترتبط نسبة الكذب في مجتمع ما بالتنشئة منذ الصغر، فالكذب في الصغر كالنقش في الحجر. وأثبتت بعض التجارب أن 30 % من الأطفال من عمر السنتين قد يكذبون، وأن 80 % من عمر الثماني سنوات مارسوا الكذب. ويستهلك العقل جهدًا أكبر قدرة أعلى للكذب منه لقول الحقيقة. وأثبتت الدراسات أن الأطفال الكذابين أنجح من أقرانهم الصادقين، وأن القدرة على الكذب تتضاءل لدى الأطفال المصابين بالتوحد. ويحتاج الكذب لعقل أكثر تطورًا من العقل الذي يقول الحقيقية، ولذا يمكن القول إن العقل الكاذب أتي بعد العقل الصادق ويعد تطورًا مهمًا له.
ولجميع هذه الأسباب وجد بعض العلماء أنه من الأسهل دراسة أسباب الامتناع عن الكذب وليس الكذب. فالسبب الأساس للامتناع عن الكذب هو شعورنا في الداخل بقيمة الأمانة وهي أمر نكتسبه من مجتمعنا. فالأمانة فضيلة يرغب الكثير منا التحلي بها وهي السبب في أننا نضع حدود لأنفسنا ولكذبنا. وتقرر الأعراف الاجتماعية عادة مجالات الكذب وحدوده، المقبول منها والمرفوض. وهناك سمتان تجمعان الكذابين وهما: أنهم وصوليون، وأنهم نفعيون. ويرى عالم الدراسات الإدراكية «جورج ليكوف» أننا نفسيًا نرحب بالكذب الذي يتطابق مع رؤيتنا للأشياء من حولنا. وعندما نواجه، حسب ليكوف، بمعلومة لا تتوافق مع ما نصدقه أو نعتقد به فنحن أما نتجاهلها، نسخر منها، نحتار فيها، أو نهاجمها كحقيقة مهددة. فنحن في حالة مستمرة من الكذب على الذات. وهذا بالطبع يختلف عن الكذب تحت الضغط أو للمنفعة. وقد رأى «فيدور دوستيوفسكي» من يكذب على نفسه، ويصدق كذبه بأنه غير قادر على إدراك الحقيقة وليس لديه احترام لذاته، ولذا فهو غير قادر على احتضان مشاعر الحب الحقيقة، ويستبدلها بالانغماس في الشهوات الحسية، لا فرق بينه وبين الكائنات الأخرى.