د. خيرية السقاف
كثيرا ما تواجهك عبارة يا «زمن الطيبين» مع كل موقف مؤثر جميل, أو ذكرى لماض انطوى بما فيه, أو عبور ببناء متهالك لا تزال بقايا مقبض بابه, أو جدار متهالك ظلت فيه طيوف لم تعد, أو لحن كانت تصغي إليه الأذن مع أهل تفرقوا, أو أحبة تباعدوا, أو خيبة, أو جحود, أو خسارة, أو خيانة!.........
«زمن الطيبين» بهذا الإيحاء يعني أن كل طيِّبٍ قد انتفى, واختفى.. شكلاً ومعنى..
ولأن الشغف بالأسئلة وحده الذي لم تفقده حاسة البشر, فإن المعاصرين يرددونها كلما احتك الموقف بنقيضه..
ولأن الأسئلة المشاغبة تراودنا, وهي كما كتبتُ أصفها في عبارة أوردتها في مقالة أدبية قديمة «كالطيور تتقافز في الصدر» لا أزال أشعر بطعمها, وكأنني مثلهم أتحسَّر على زمن الكتابة الطيبة!!, فهل حتى كتاباتنا لم تعد في طيب ما كانت عليه, أو لعل المدلول يذهب إلى المعنى الآخر للكلمة فلا تكون في عافية؟, وهل مرض الزمن بأهله كما طاب الذي مضى بأهله؟
كل الأسئلة تتقافز على الورق كلما مررت بهذه المقولة «زمن الطيبين»!..
ولعل المبحر في الفسيفساء, المقتحم للجزيئات سيجد مآلات كثيرة لتأويل هذه العبارة على أوجه مختلفة قصدا, ودلالة, ودافعًا, تتفاوت, وتتطابق, وتتقارب, وتتضاد في آن من خلال هذا الواقع المعاصر الذي فيه حتى المسرورين بأسبابهم يتنهدون كثيرًا حين موقف, يأسفون فيه بمخيلتهم العامرة بماضٍ ما على زمن الطيبين الذي انطوى, وتفلَّتت فيه الطيبة بما يؤولون مقارناتهم به, مع حاضرهم..
ولربما ستأتي أزمان أخرى يردد أهلها العبارة ذاتها, وكل زمن يتأسى فيه أهله على زمن مضى, ويأسفون على ما مضى!!..
ومفهوم «الطيبة» ومشتقاتها ذو معانٍ, ودلالات, ومقاصد تختلف عند من يوظفها بفهمه في موقفه الذاتي, أو الجمعي عند من يتحسرون على بقايا في مخيلاتهم في كل زمان....
الخلاصة أن في هذا الزمن الذي تضخم بالمعرفة, والإنجاز, والكثافة السكانية, والمعجزات البشرية قد كثر فيه الجهل, والمرض, والحاجة, والفاقة, والغربة, والشتات, والقتل, والسلاح, والفرقة, والحقد, والغيرة, والتيه, وتنوعت أمراضه العقلية, والنفسية, والأخلاقية, ووهنت حبائله الإيمانية, وعزائمه التعبدية..
وفيه كلٌ «يغني على ليلاه», ويتحسر على ذكراه!!..
ويمضي المرء ما عاش مع حسرته يردد «يا زمن الطيب, والطيبين,
كلما جاء زمان, وتقادم آخر!.................