د.عبد الرحمن الحبيب
يأتي اجتماع قمة مجموعة العشرين بالأرجنتين يوم الجمعة القادم، في وقت عصيب وغير مسبوق من الحروب التجارية بين الدول الكبرى مع عودة للانكفاء الوطني وصعود للشعبوية، فيما تُعد المجموعة أحد أقوى أسس العولمة لإدارة الاقتصاد العالمي والجمع المؤسسي لدوله التي تمثل 90 % من الناتج العالمي الخام وثلثي التجارة العالمية. فما قصة مجموعة العشرين وهل تشكل مواجهة للشعبوية أم مهدئة لها؟
القصة بدأت أواخر التسعينيات مع صعود العولمة وتراكم أوجاع عالمية عقب الانهيارات المالية التي انتشرت بالأسواق الناشئة، بدءاً بأزمة البيزو المكسيكي وتلتها الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 ولحقتها روسيا عام 1998، فهزت الوضع المالي العالمي. إزاء عجز مجموعة السبع والثمانية من توفير استقرار مالي عالمي، كان لا بد من إشراك الاقتصاديات الناشئة بصناعة القرار، ففي سبتمبر 1999 أُعلنت المجموعة رسمياً باجتماع وزراء مالية الدول الصناعية السبع، وافتتحت المجموعة بنهاية ذلك العام في برلين.
لعبت أمريكا مع ألمانيا وكندا دوراً أساسياً في إنشائها، إذ كلف وزير الخزانة الأمريكي مع نظيره الألماني بتجميع قائمة الدول الرئيسية عبر معيار الثقل الاقتصادي والديموغرافي لتشكيل منتدى صُنع القرار يكون أفضل تنفيذياً ومرونة من هيئة الأمم المتحدة. كانت الهيمنة في البداية لمجموعة الثمانية ومعها ما يسمى بريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا)، ثم أضيفت السعودية وإندونيسيا والأرجنتين والمكسيك وتركيا. وستكون السعودية هي المضيفة لقمة 2020.
في العشر سنوات الأولى كانت عضوية المجموعة على مستوى وزراء المالية، وتركيزها الأساسي على إدارة الاقتصاد العالمي من ناحية تقنية بحتة، لكنها شملت لاحقاً قضايا مثل الإصلاحات المحلية للتنمية المستدامة، وأسواق السلع العالمية للطاقة والموارد، وإصلاح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتأثير التغيرات الديمغرافية بسبب شيخوخة سكان العالم.
منذ البدايات طالب البعض، مثل الكنديين، بترقية مجموعة العشرين من مستوى وزراء المالية إلى قادة الدول، لكن إدارة بوش المشهورة بنهجها الأحادي قاومت ذلك، إلا أنها غيرت موقفها إثر الأزمة المالية الكبرى عام 2008 التي بدأت أمريكياً وانتشرت عالمياً، وجعلت كل دولة تناضل لإنقاذ مؤسساتها المالية بالتعاون مع دول أخرى إنما بطريقة غير منسقة ومربكة؛ بينما كان المطلوب عمل مؤسسي وسياسة ملتزمة لتجنب تكرار صراعات ثلاثينيات القرن العشرين، وتسريع الإجراءات التنظيمية الجديدة. وعندما اتضح عمق الكارثة، اعترف بعض القادة، مثل الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني بالحاجة لتجمع عالمي على مستوى القادة، حسب المؤرخ آدم تووز (جامعة كولومبيا).
بيد أن إنشاء منتدى سياسي بهذه الهيكلية والدرجة من الأهمية الدولية يثير مشكلاته الخاصة، سواء باختيار الدول الأعضاء أو بالعلاقة مع هيئة الأمم المتحدة أو في تعارضه مع بعض التنظيمات الدولية. في النهاية، وافق اللاعبون الرئيسيون على ترقية مجموعة العشرين الحالية إلى مستوى القادة وربطها مع صندوق النقد الدولي، حيث يتم تقييم حقوق التصويت من خلال المساهمة الرأسمالية.
بطبيعة الحال، بعض المستبعدين من هذا التجمع استاءوا كثيراً، فقد وصف وزير خارجية النرويج مجموعة العشرين عام 2010 بأنها «أعظم نكسة» للمجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، قائلاً: «لم نعد نعيش بالقرن التاسع عشر حين تقابلت القوى الكبرى لإعادة رسم خريطة العالم. لا أحد يحتاج إلى مؤتمر جديد في فيينا». لكن منذ الاجتماع الأول لمجموعة العشرين في واشنطن، لم يفكر أحد بإعادة رسم أي خريطة وإنما بإدارة الاقتصاد العالمي على نحو أفضل.
كانت الاجتماعات الأولى غير منسقة وغير فعَّالة، لكن مع مرور الاجتماعات تحسنت وتوسعت صلاحياتها، وتم التوصل إلى اتفاقات مهمة بشأن المبادرات المتعلقة بالتنظيم المصرفي والاستقرار المالي وسياسات التقشف.. وصارت كمكان مناسب للقاءات الثنائية التي تتوازن مع الوضع العالمي الأوسع.. وفي الآونة الأخيرة، كانت فرصة لبعض قادة العالم لتهدئة البرنامج الشعبوي للرئيس الأمريكي ترامب لسياسة «أميركا أولاً»، حسب تووز (فورين بوليسي).
وهنا، يتساءل المؤرخ تووز: في عالم من الوطنية المتزايدة التشدد، هل لدى مجموعة العشرين مستقبل؟ ويجيب: بالتأكيد تقريباً، لأن أسلوبها الأممي يعزلها عن الضغوط الوطنية. أما ما أشار إليه وزير الخارجية النرويجي، بأن التسلسل الهرمي (عدم المساواة) مبني في نموذج مجموعة العشرين (حسب وزنها الاقتصادي) مما يمثل اختراقاً للنظام الدولي الحالي الذي يؤكد على مساواة الأعضاء السياديين بالجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن امتياز مجموعة العشرين لمجموعة حصرية من البلدان الكبرى يكمن في مواجهة الخيال غير الواقعي للسيادة المتساوية؛ لكن هذا لا يجعلها ارتدادًا للقرن التاسع عشر، فالمجموعة هي منظمة أصيلة للحقبة الجديدة للعولمة، وإعادة التوازن في التسلسل الهرمي للأمم.
الخلاصة أن مجموعة العشرين هي إطار مؤسسي أممي يواجه جموح الشعبوية، لأن أعضاءها يمثلون أهم الدول المؤثرة اقتصادياً في العالم، والمجموعة حالياً تشكل الحكم الدولي في الإشراف على الاقتصاد العالمي.. ولن تستطيع أي دولة الانكفاء بذاتها والاستقلال بقراراتها الاقتصادية دون تنسيق عالمي، فالأزمة المالية في تسعينات القرن الماضي بالاقتصاديات الناشئة جرَّت معها كل دول العالم.. والأزمة المالية بنهاية العقد الأول في أمريكا كادت تعصف بالعالم.. فإذا كانت الشعبوية للخيال العاطفي فالعولمة للواقع العقلاني.