د.عبدالله مناع
احتفلت (فرنسا) الرئيس (إيمانويل ماكرون) مع زعماء العالم وقياداته في مدينة (فرساي) مطلع هذا الشهر -نوفمبر 2018م- بمرور مائة عام على نهاية الحرب العالمية الأولى، التي امتدت بين عامي 1914 / 1918م.. وكان طرفاها: (ألمانيا والإمبراطورية النمساوية الهنغارية والإمبراطورية العثمانية) من جانب.. أمام التحالف الثلاثي المكون من (فرنسا وبريطانيا وروسيا) على الجانب الآخر.. وكأن الرئيس ماكرون أراد باستضافة (فرساي) لهذه الاحتفالية السياسية الكبرى الحفاظ على حق مدينة (فرساي) التاريخي في قيادتها...!؟ لأنها المدينة التي استقبلت: الوفود الرسمية لسبعة وعشرين دولة ممن دعو لحضور (مؤتمر السلام) فيها، الذي دعت إليه الدول المنتصرة في الحرب: فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية في شهر يناير من عام 1919م.. إلى جانب وفود غير رسمية من المصريين واللبنانيين والأكراد والأرمن، الذين قدموا إلى (فرساي) لطرح مطالبهم السياسية في الحرية والاستقلال.. على (المؤتمر).. بعد أن تأكد لهم أن (المؤتمر) يُعقد تحت راية كبرى.. هي راية: (حق تقرير المصير لكل شعوب العالم).!!
فـ(فرساي) هذه التي استضافت (مؤتمر السلام) في نهاية الحرب العالمية الأولى.. وعلى مدى عامي (1919م و1920م).. هي إحدى المدن الفرنسية الصغيرة الجميلة والخلابة، وهى مدينة تشتهر بحدائقها وقصورها، ومن بينها (قصر فرساي) الشهير الذي بناه (لويس الرابع عشر) عام 1661م ونقل إليه بلاطه عام 1682م، وشهد توقيع أول معاهدة باسمها في ختام حرب الاستقلال بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عام 1783م.. ثم شهد فيما بعد توقيع (معاهدة فرساي للسلام).. في نهاية الحرب العالمية الأولى في )قاعة المرايا(.. بعد أن وافقت ألمانيا في 18 يونية 1919م على (المعاهدة)، التي شارك في صياغتها وإعدادها كل من الرئيس الأمريكي الثامن والعشرين: (ويدرو ويلسون)، ورئيس وزراء فرنسا (جورج كليمنصو)، ورئيس وزراء بريطانيا (لويد جورج)، ورئيس وزراء إيطاليا (اورلاندو)، والتي بُنيت في أساسها على مبادئ الرئيس ويلسون الأربعة عشر.. التي تصدرها مبدأ (حق تقرير المصير) لكل شعوب العالم.. لتقوم في إثر الموافقة الألمانية على (المعاهدة): (عصبة الأمم).. التي اختارت مدينة (جنيف السويسرية).. لتكون مقراً دائماً لها.. بينما أطلق محافظ المدينة ومجلسها اسم الرئيس (ويلسون) على أفخم فنادقها المطلة على بحيرة (ليما) السويسرية الشهيرة.. والمعروف بـ (البريسدينت) أي (الرئيس)، الذي ما زال قائماً إلى يومنا هذا.. وإلى جواره مباني (عصبة الأمم) الإدارية، التي تحولت - بعد زوال عصبة الأمم - وقيام منظمة الأمم المتحدة.. بعد الحرب العالمية الثانية.. إلى (مقار) لمنظمات الأمم المتحدة المتخصصة: كـ (منظمة الصحة العالمية) و(منظمة التجارة الدولية) إلى آخر تلك المنظمات الأربعة عشرة.. باستثناء منظمتي: (الأغذية والزراعة).. التي اختارت أن يكون مقرها مدينة (روما)، و(التربية والعلوم والثقافة).. المعروفة بـ (اليونسكو) التي اختارت (باريس) لتكون مقراً لها.. إلا أن (عصبة الأمم) نفسها لم يقدر لها البقاء طويلاً.!! لأن (معاهدة السلام) التي قامت عليها لم تكن متوازنة بذلك القدر الذي يحملها على البقاء.. بل كانت منحازة لـ (المنتصرين).. مجحفة بحق المهزومين إلى حد الإذلال والمهانة.. مما عجل بـ (سقوطها) و(زوالها)، وحَّول معها فيما بعد (قصر فرساي) الذي شهد توقيع ممثلي دول العالم على معاهدة فرساي للسلام عام 1919م: إلى (متحف).. شاءت ظروفي الحسنة زيارته في الثمانينات من القرن الماضي..!؟
كانت (المعاهدة) بشروطها القاسية.. مستفزة لـ (ألمانيا) دون شك! سواء بإعادة ترسيم الحدود بينها وبين جيرانها الأوربيين.. أو بإلزامها التخلي عن (الالزاس) و (اللورين) الفرنسيتان، اللتين استولت عليهما إبان حروب البلقان.. أو بدفع تعويضات مالية باهظة للدول المتضررة من تلك الحرب.. بلغت خمسة وعشرين مليار فرنك ألماني ذهب.. يتم سدادها خلال عامين.. أو بتحديدها عدد أفراد قواتها المسلحة بـ (100 ألف) جندي و (400) ضابط.. مع منع ألمانيا من إنشاء أي غواصات جديدة، وعدم السماح لقواتها البحرية بتملك أكثر من (36) سفينة.. مع عدم السماح لقواتها بالدخول إلى المناطق المنزوعة السلاح التي تحددها (معاهدة فرساي)، يضاف إلى كل ذلك.. موافقة ألمانيا على وضع إمبراطورها (غليوم الثاني) موضع اتهام وتقديمه لـ (محكمة دولية)!؟ ولضمان تنفيذ كل تلك الشروط.. يتم احتلال منطقة (الرينان) الألمانية لمدة خمسة عشر عاماً...!؟
لقد كنت أخشى كـ(متابع) لهذه الاحتفالية.. من أن يأتي ذكر المعاهدة واسترجاع فصولها.. وهو ما قد يفسد بهجة هذه الاحتفالية الحضارية.. لكن الإعلام الفرنسي استطاع من خلال وكالته الفرنسية الرائدة للأنباء، ومن خلال قناته الفضائية (مباشر من باريس).. أن يضع ببراعة بعض المساحق واللمسات على تلك المخاوف.. بتمرير تلك الصور الفوتوغرافية والمشاهد التليفزيونية الجميلة لكل من الرئيس ماكرون والمستشارة (انجيلا ميركل)، وهما يجلسان كتفا لكتف عشية احتفالات فرساي وفرنسا والعالم كله بمرور مائة عام على نهاية الحرب العالمية الأولى لمطالعة أحد الكتب -التاريخية.. ظناً- وهما يبتسمان ويتهامسان ويتبدلان الضحكات والقفشات...!!
على أي حال.. كانت (معاهدة فرساي) بقسوة وغلظة شروطها على (ألمانيا).. وكأنها كانت تضع البذور في تربة الصراع الفرنسي الألماني لـ(حرب) عالمية جديدة!! وهو ما حدث فعلاً بعد عشرين عاماً مع وصول الزعيم الألماني (ادولف هتلر) إلى منصب المستشارية الألمانية.. حيث أعاد بناء ألمانيا خارج شروط (معاهدة فرساي)، لتقود (ألمانيا) في سبتمبر من عام 1939م العالم إلى حرب جديدة، لم تكن لتخلو من روح (الانتقام)، إذ حرص (الألمان) على حمل (الفرنسيين) مجدداً إلى الجلوس في (قاعة المرايا) بقصر فرساي لإلغاء معاهدة 1919م.. معاهدة الذل والهوان -كما كان يسمها الألمان- إلا أن ألمانيا هزمت مجدداً في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م..
ودارت الأيام.. إلى أن جاء الزعيم الفرنسي الأشهر (شارل ديجول) إلى (الاليزيه) في ستينات القرن الماضي، ليقول لصديقه ووزير الثقافة الدائم (اندريه ما لرو) في إحدى جلساتهما المشتركة كلمته الرائعة عن (التاريخ): (الزمن وحده يصنع التاريخ! وإذا تاريخ فرنسا يمر في استقلال الجزائر.. فليمر! في اتحادنا مع ألمانيا.. فليمر)!! لينته ذلك الصراع الدائم بين الجارتين: فرنسا وألمانيا.. ويقوم (الاتحاد الأوروبي).. على دولتيه الكبريين -بعد ذلك-: (فرنسا) و(ألمانيا).. بصورة رائعة من التعاون المثير للدهشة والإعجاب معاً!!
وقد تزامن مع ذلك في مصادفة تاريخية: قيام محطة الـ(بي بي سي) الفضائية.. بـ(تلوين أفلام الحرب العالمية الثانية) وإعادة بثها.. مجدداً قبل وبعد وخلال هذه الاحتفالية بمرور مائة عام على نهاية الحرب العالمية الأولى.. ومرور ثلاثة وسبعين عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية.. ليصبح للاحتفال بمرور مائة عام على الحرب العالمية الأولى أضعاف بهجتها.. بينما بقيت بوابة متحف قصر فرساي - الذي شهد أهم أحداث الحرب العالمية الأولى ومداولاتها - مفتوحة للسياح العابرين.. وللمهتمين بأحقاب (التاريخ) وعبره ودروسه..!!