د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
يُذكِّرني واقع التعليم اليوم والهرولة نحو صناعة جديدة للمتعلمين تضيء واقعهم؛ يُذكِّرني بالوجه الآخر للمدينة الفاضلة أحد أحلام الفيلسوف المشهور «أفلاطون»، وهي مدينة تمنَّى أن يحكمها الفلاسفة، وذلك ظناً منه أنهم لحكمتهم سوف يجعلون كل شيء في هذه المدينة معيارياً، وبناءً عليه ستكون فاضلة.
لن أخوض في التفاصيل الأفلاطونية ومدى تحققها في مدينة التعليم الفاضلة، فهناك أحلام ملأى بالصيد المجزي إذا ما كان الصيادون مهرة ذوي دربة؛ إلا أن الوجه الآخر للمدينة الفاضلة امتلأ بالمنتمين للتعليم الذين لم يتمكنوا إلى الآن من اكتشاف إمكاناتهم الفردية، وقياس حدود قدراتهم، وهذا في حد ذاته خدش في جدران تلك المدينة؛ وحيث تُشكِّل الانتكاسات التي مر بها التعليم تجارب نمو لا تُنسى تجعلنا قادرين على تقييم المنجز التعليمي، ورصد الفرص الجديدة؛ ومفتتح ذلك التمرس هو الانفتاح الفكري بما يعزّز الوعي بحدود الإمكانات والمعارف، كما يُحسّن من المقدرة على دمج المعارف والخبرات بما ييسِّر التعامل مع التحديات في الحاضر والمستقبل، ومن خلال نزع الأقنعة سوف نصبح أكثر مصداقية واقتراباً من المدينة الفاضلة المنشودة، وفي الوجه الآخر للمدينة الفاضلة توجد مشاريع أفلاطونية لا يمكن أن تنفذ دون معيارية شاملة للمنتج والمنفذين والبيئات التعليمية (تكدس الطلاب، عجز في المعلمين المتخصصين، ونأي عن المستهدفين وحاجاتهم الحقيقية، والاحتكام للقليل من المستهدف وتعليق النتائج عليها، وبالتالي مخرجات ضعيفة تحتاج إلى تسوية أولاً وآخراً، ومن ثم حُزمٌ من المعارف الذهنية قبل قوالب الآيسكريم؟!!
وإذا ما سلَّمْنا يقيناً وواقعاً بالقدرة التحويلية الكامنة في التعليم؛ وأن تطوير التعليم مشروع لا يمكنه الانتظار، وأن الحظ يختفي تماماً من معادلة المستقبل التعليمي؛ فإنه لا تعليم دون عمل مدروس ذي تخطيط عميق متفوق.
وفي الوجه الآخر من مدينتنا الفاضلة يوجد جوائز علمية حازها المتعلمون الموهوبون والمتفوقون في محافل محلية وإقليمية ودولية فعسى ألا تكون من الخدع البصرية التي تخاتلنا لنستريح! ونتمنى أن تكون حافزاً للتنقيب المنظَّم عن المخترعين وعلماء وادي عبقر الذي نُسبتْ إليه العبقرية كمفهوم لضرب الأهداف السامية؛ وأهمية التركيز على منتجات الفائزين، وإعطاء أولوية في استراتيجيات الفوز والإبداع العلمي لتطوير المنتجات الفائزة ودعم العقول الفوارة؛ وعند ذاك فأولئك هم شهودنا العدول على تعليمنا الفاضل في مدينته الفاضلة.
وفي حاضرنا اصطفتْ منصات التحول الرقمي للمعرفة وزاد عدد الباحثين في الجامعات، وما زال إعلام المدينة التعليمية الفاضلة يصدح بأن المزيد من حملة المؤهلات العليا تعني تسريع وتيرة التقدم الاقتصادي! ولكن الوجه الآخر للمدينة الفاضلة يؤكد أنه لا مزيد من الاكتشافات بل تضخم المؤشر قد يربك تكامل النظام التعليمي وانسيابية الاستفادة الموجهة من الكوادر البشرية، ولعل في تنويع الأنظمة في مؤسسات التعليم العالي والجامعات خاصة واختلاف مناهج البحث ومساراته يسهم في منع التشابه الذي قد يؤدي إلى قتل الابتكار، ويفضي إلى الركود البحثي والبحث العلمي سراج العلماء؛ كما يمكن البحث عن موضوعات جديدة من مستراد الأبحاث القائمة، ومن خلال النتائج المتضاربة التي تستحق مزيداً من التحقق حيالها، ويجدر بالقائمين على الدراسات العليا ومراكز البحث العلمي في الجامعات بناء معايير ومؤشرات إضافية للاقتباسات البحثية لكي تستطيع من خلالها صناعة تقييم أكثر دقة وشمولية، وحتى يحصد الوطن علماء أكفاء يتمايزون فيما بينهم وأمام العلماء في العالم، ويسهمون في الحراك النهضوي الوطني والعالمي، ويتربعون في مصانع المدينة الفاضلة ليقوموا بالاستفادة من مخزونهم المعرفي بذكاء، وتسليط الأضواء على متطلبات الحاضر التعليمي والتنبؤ بفرص التحسين لأوجه القصور وإدراك المحتوى الأعمق لما هو معلوم لحيازة المستقبل المشرق بإذن الله.
مهمة التعليم باختصار تهيئة المتعلمين لآفاقهم المستقبلية، فهم يحتاجون أكثر من أي وقت مضى إلى ذلك النوع من التعليم الذي يؤهلهم للتفكير بأفق متسع؛ وإلى استحداث روابط غير عادية عبر كثير من المجالات.
وحتى لا تكون مدينة أفلاطون أقصى طموحاتنا، وحتى لا يتم تسطيح المنجز العقلي خلف جدرانها «فلا بد دون الشهد من إبر النحل».