د. إبراهيم بن محمد الشتوي
حينما كنت أعمل في رسالة الدكتوراه، كان من بين مباحث الرسالة الصلة بين الإسلاميين والشيوعين، والشيوعيين والقوميين، والشيوعيين فيما بينهم، وكانت هذه العناوين تشكل قلقاً شديداً ليس لي وحسب، وإنما أيضاً لكل من قرأ في مخطط الرسالة، وهو على صلة بالرواية المصرية، فواضح أن هذه القسمة قسمة عقلية منطقية بالمقام الأول، لكن وجودها في الواقع بله أن تكون أصلاً ممثلة في الرواية أمر يحتاج إلى بحث وتنقيب.
وكان مما زادني كرباً إلى كرب أن هذه القسمة «المنطقية» تجد لها صدى لا بأس به في بعض نصوص الرواية، فالشخصيات الروائية تتوزع بين هذه التيارات المختلفة، وقد نجد فيها بعض الشخصيات ذات الاتجاهات الفكرية الواحدة وبينها نوع من الصراع، وهذا ما جعلني أحار لا في دراسة النصوص الروائية مستقلة عن واقعها باعتبارها «بنى مغلقة» على طريقة البنيويين، وأعزلها عن سياقها الاجتماعي والسياسي، وإنما باعتبارها مادة تاريخية تمثل الواقع وتؤرخ له، فتكون مصادر تاريخية، وهذا قد يوقعني بمأزقين؛ أن أوصف بالكسل وعدم البحث عن المصادر الأصلية التاريخية لتلك الأحداث والعودة إليها، وتأصيل الأحداث منها، وأن أظلم أصحاب تلك الاتجاهات وأنسب إليهم مالم يحدث في الواقع، فأحملهم مسؤولية خيالات الروائيين وضلالاتهم.
وهذا ما جعلني أتحرج كثيراً وأنا أعرض الروايات، ذلك أنها تتكلم عن أحداث تاريخية واقعة، وربما تحيل إلى شخصيات مرجعية فيتوهم القارئ أنني أتكلم عن الأحداث التاريخية المرجعية وليس الأحداث الروائية التخييلية، وجعلني أيضاً أبحث عن المصادر التي تساعدني في التحقق من صحة ما جاء في هذه النصوص من مصادر خارجية أو من كذب فيها، فأبحث عن الكتب التي أرخت لتلك الحقبة، ودونت أحداثها.
ولأنها حقبة قريبة، وكثير ممن قام بدور فيها لا يزالون على قيد الحياة، ولأنني أيضاً أقيم في الرياض ولا أذهب إلى مصر حيث فضاء الدراسة إلا أياماً معدودات لا تتجاوز عشرة أيام في الصيف، وقد أغلقت الجامعات أبوابها، وذهب بعض المثقفين والكتاب ليقضوا إجازاتهم في المصايف إما إلى الإسكندرية أو إلى ما وراء البحار، فلم تكن هذه الأيام التي تعد على الأصابع، أقضيها مختلفاً إلى المكتبات التجارية أو المكتبة الوطنية في الهيئة المصرية للكتاب، وأحياناً بعض مكتبات جامعات القاهرة، لتغني شيئاً كثيراً في هذا المضمار؛ إذ لم أجد كتباً (ولا أقول إنه لا يوجد) تؤرخ لتلك المراحل والأحداث بصورة دقيقة. الأمر الذي جعلني أبحث عن مصادر أخرى أؤرخ منها تلك الحقبة، وأتحقق من صحة الأحداث المروية في الروايات، فاعتمدت على كتب ليست تاريخية مؤلفة عن تلك الحقبة تبحث في قضايا الحركة العمالية، أو بعض ما كتبه المفكرون القوميون، أو ما كتب عن الحركة الإسلامية، وبعض ما كتبته الصحف الصادرة في تلك الحقبة عن بعض الأحداث التاريخية المشهورة كحادثة المنشية مثلاً.
وكانت كتب المذكرات والسيرة الذاتية هي المرتكز الأول الذي رجعت إليه في تاريخ الحركة الشيوعية على وجه الخصوص سواء كانت هذه الحركة «حدتو» أو «الحزب الشيوعي المصري»، لشخصيات كانت أعضاء فيها وعاصرت الأحداث أو تولت القيادة فيه، أو مذكرات بعض ضباط الاستخبارات وأمن الدولة عن هذه الاتجاهات والقيادات فيها، وطريقة تأسيسها، وما تقوله ملفات تلك الجهات.
ومع أن لدينا جهتين متقابلتين تنظر كل واحدة منهما إلى الحدث بزاوية مختلفة عن الأخرى، وتقدم فيه رأياً مختلفاً تمام الاختلاف، فإن طبيعة الصلات بينهما القائمة على العداء التي تجعل كل طرف يرى الآخر على خطأ تام، وربما يصحبه نظرة احتقار ودونية، بناء على موقع الشيوعيين الضعيف الخائن للوطن والمتمرد على قواعده حينما يكون كاتب المذكرات من رجال الأمن، أو موقف المتعصب الجاهل الفاشي الغشوم حينما يكون الكاتب من الشيوعيين، وهذا ما يشوش نظرة كل واحد منهم للأحداث المتصلة بالآخر، ويجعل رؤيته محصورة في زاوية معينة، وموقف محدد لا ينفع كثيراً في البحث عن الحقيقة التاريخية؛ إذ نجد روايتين لحدث واحد يتبادل فيهما البطل والضحية الأدوار، فيكون البطل في كل واحدة منهن مختلفاً عن الآخر، وهذا يعني أن لدينا حدثاً واحداً -كما يقول- نقاد السرد، بؤر بصور مختلفة، وإذا كان هذا مقبولاً في النص السردي التخييلي الذي يقوم على الإثارة، والثراء، ومحاولة ربط الخيوط بعضها ببعض، وإثارة أسئلة القارئ، خاصة مع تقنية السارد المتعدد، فإن الكتابة التاريخية تسعى للإجابة على الأسئلة والحد منها بتقديم الشواهد والأدلة، والرؤية الموضوعية من جميع الأطراف حتى تقنع المتلقي بحقيقة ما فيها، وتقدم رؤية متكاملة للحدث للأجيال اللاحقة.