المعطف الروسي قصة المعطف، التي أتى عنوانها بسيطًا للأديب الروسي: نيقولاي غوغول ويعتبر من أعظم أدباء روسيا حيث عرفته الأوساط الأدبية بأسلوبه الناقد الذي يتخذ الهزلية طابعًا له، وقد تكونت هذه السمة البارزة في نتاجه بسبب تأثره بالشاعر: كانتيمير
الذي عهده الحقل الأدبي بالقصائد «الساتيرية» للحد الذي تعذر عليه الكتابة في غير هذا النمط وقد تناول الكثير من مشكلات المجتمع. صدرت هذه القصة عام 1842 وتم ترجمتها عن منشورات الجمل وهي تندرج تحت المدرسة الواقعية، وتحتوي على البساطة من الناحية الكمية والتراكيب الكيفية والشكليات السردية إلا أنها تحمل أبعادا سحيقة بعضها يختلف على حسب مستقبلات القارئ وتغربل مخاوفه وهذا ما جعلها تتجاوز حدودالأزمنة والهوية.
شخصية البطل تدعى «أكاكي» وهو رجل قصير القامة ومسالم أقرب للسذاجة النابعة من براءة القلب حيث إنها محدودة الفكر وغير متنامية، إن «أكاكي» يحمل وظيفة الناسخ ولا يفعل شيئا غير نسخ الأوراق طيلة هذه السنين، أشبه بالآلة التي لا تفعل غير ذلك ولا تقوى على إطلاق التفكير الذاتي وهذا التحول المخيف تصنعه دوائر البيروقراطية، حيث كل الموظفون الصغار يتحولون إلى معدات آلية ولكن الأمر لا يقف على هذا الحد، إنما تعكس لنا الرواية مأساة الأفراد الروسيين وكيف أن سقف أحلامهم منخفض جدا مقارنة بالطبقات النبيلة، إن رمزية المعطف التي تحمل وجهان هما الدفء والاحتواء تعكسان الحلم والمستقبل الآمن والحياة الهانئة، والغريب كيف لهذا الشيء التافة والمكون من قطعة قماش أن يقلب رأسا على عقب الحياة المعيشية للبطل جراء الحصول عليه، وهذا يوضح لنا الحالة المادية للفرد الروسي أنذاك، يرى البعض أن البطل مستقر كليا لمجرد أنه يحب عمله ولكنه فاقد الاستقرار بمعناه العام بمعنى آخر اكتسب الاستقرار الجزئي، لأن ليس ثمة توافق بين الرغبات والأهداف. كان «أكاكي» يعمل لهدف العيش دون وجود رغبة قوية تدفعه نحو ما هو أبعد من ثنائية الحد والمألوف وهذا ما عززعنصر الخمول الذي تسببه تلك الدوائر الهرمية، لكن بعدما وجد الرغبة التي انحصرت بالمعطف انتقل من حالة الخمول هذه إلى النشاط (التفكير والتغيير) هذا الانتقال العظيم نجد نتائجه جميلة حيث أصبح أكثر انتعاشا واختفت تبعات الثقة من الغموض والتردد والخوف وكل ذلك يقودنا إلى استقرار كلي، لم تأت هذه الرغبة من إرادة عنصر خامل بل الظروف حتمت هذا الأمر ومن هنا انطلق «أكاكي» يسعى نحو ما يريد. إن هذا التسليط القوي المليء بالتكثيفات من قبل الكاتب على نقطة تافهة لا يحفل بها أي مجتمع وتحدث كثيرا قدمت صفعة قوية للعالم. بعدما حصل بطلنا على مبتغاه وظهر بمظهر مختلف لمن اعتادوا عليه انتشر الأمر كما تنتشر النار في الهشيم ونجد في هذا المشهد كيف أقام سكرتير الرئيس احتفالا بالبطل لغاية شخصية وخبيثة وهذا يعكس لنا مقاصد واسقاطات بعيدة المدى تستهدف المؤسسات. تتطور الأحداث إلى أن يعترض «أكاكي» في الأزقة اثنان من اللصوص، ويفقد الحلم بعد الركلة التي تلقاها، لم يسرقا لمعطف في العمل أو في الحفلة بل في أسوأ الأماكن وهنا يتبين لنا أن الفرد الروسي غالبًا يسحق في أبشع الأمكنة، يفيق البطل ويصرخ ويناجي جهاز الدولة،توجه نحو ذلك الشرطي وهو في حالة يرثى لها ولكن أخبره أنه لم ير شيئا حينها أخذ يوبخه لعدم أداء واجبه على أكمل وجه وفي هذه النقطة يعرض لنا مدى تهاون الجهاز أنذاك، ليخبرنا الكاتب أن الشرطة لا تنجز الواجبات إلا عن طريق النفوذ وهذا ما يؤدي إلى تدمير الغالبية المنسية التي قُتلت أحلامهم. يتعرض «أكاكي» مرة أخرى للسحق ولكن من قبل شخص صاحب مرتبة عسكرية رفيعة، هذا الشخص يمثل الحالةالسيكولوجية الطاغية على غالبية ممثلي الجهاز، حيث يروق له استحقار العامة البسيطة لإشباع شهوة السلطة التي بيده. يتعرض «أكاكي» للحمى ومما زاده سوءا هو الضغط النفسي والقهر والظلم الذي تعرض له إلى أن انتهى الأمرللموت: مات «أكاكي» ومات معه الكثير من الأفراد الروسيين وأحلامهم الصغيرة رحل بطريقة تافهة وبائسة مثل حشرة لم يقم لها العالم وزنًا أو أقل من ذلك، انتهى هذا البسيط دون أن يشعر به أقرب الناس (زملاؤه بالعمل) ولم يعلم أحد منهم إلا بعدما أرسلت الإدارة أحد موظفيها ليخبر «أكاكي» بضرورة حضور العمل، إن النهاية التي حتى لم يذكر المؤلف لها مراسم العزاء، فقط ذكر أنه دفن ولكن منذ أيام، كل تفاصيل هذه النهاية تخبرنا مدى الوضاعة وحجم الحالة المنسية التي يقبعبها الفرد الروسي. بعد هذا المصير البشع تأتي الخاتمة التي رأى الكاتب أنها الحل الوحيد للانتقام وهي أقرب إلى السريالية، حيث ظهر شبح «أكاكي» يجول البلدة ويسقط المعاطف من أكتاف الآخرين إلى أن أرعب العامة ولكن لم يشبع انتقامه سوى معطف الجنرال الذي سحق «أكاكي» وكأن نيقولاي غوغول يخبرنا أن هذا الجهاز آنذاك كان المدمر الأكبر للمجتمع الروسي.
- أحمد الحربي