د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قصة جنوب إفريقيا مع الذهب واكتشافه بها، يشابه ما تم في كاليفورنيا وأستراليا، فإن كان سوتر هو بطل الاكتشاف في سكرامنتو بكاليفورنيا، وإدوارد هارغريغر، بطل اكتشاف الذهب في أستراليا، فإن جورج هارسون هو المكتشف للذهب في جنوب إفريقيا.
كان جورج هارسون يسكن في بلدة لا تبعد كثيراً عن جوها سنبيرغ، وكان له جارة أرملة أرادت أن تبني بيتاً، وأراد أن يساعدها، وذهب ليكسر بعض الصخور بمعوله وذلك في عام 1886م، وما أن بدأ بالتكسير حتى لاح له بريق الذهب الكامن على شكل عروق بين طبقات الصخر، وعاد إلى الأرملة مبتهجاً، وواصل البحث لكنه لم يحصل إلاّ على كميات ضئيلة منه.
الذهب في جنوب إفريقيا، لا يكون على هيئة شذرات تنساب مع تدفق مياه الأنهار، وإنما بين الصخور التي يحتاج تكسيرها الكثير من الجهد للحصول على كميات قد تتناسب في عنائها وتكاليفها مقدار الذهب الذي يمكن الحصول عليه منها، ناهيك أنه في الغالب موجود في طبقات سفلى تجتاح إلى المناجم، والجهد البشري الهائل، والظروف البيئية والميدانية الصعبة جداً، مما يؤدي إلى وفاة عدد غير قليل من البشر، نظراً لنقص الأكسجين، وارتفاع الرطوبة، وانهيار التربة، وتدفق المياه الجوفية وغيرها، في زمن لم يكن للآلة الحديثة وجوداً.
بعد أن سمع الناس باكتشاف هارسون للذهب، حتى هبوا لينالوا نصيبهم منه، بعد أن حمل كل واحد منهم معوله، وتدفقت أعداد من أوروبا وغيرها، حتى بلغ عدد الهجرات إلى جنوب إفريقيا ألفي فرد في الأسبوع تقريباً، وقد اكتشف الأغلب منهم أن هذا العمل الشاق يتطلب جهداً، واستثماراً أكبر مما هو متوقع، ويبدو أن الآمال انحسرت بعد مرور ثلاث سنوات من اكتشاف هارسون الذهب الكامن في الصخور عند تكسيره لها لمساعدة جارته الأرملة.
لقد تبين لشركات التعدين التي أخذت في العمل هناك أن عروق الذهب تصبح أكثر ضآلة كلما زاد المنجم عمقاً، ولم يعد بالإمكان فصل الذهب من تلك الأكوام المتراكمة من التراب، وانهارت أسعار أسهم شركات التعدين، حتى فقد البعض 95 % من قيمتها، وقد قال أحدهم «سينمو العشب في شوارع جوهانسبرغ بعد سنة» لكن ذلك لم يحدث.
في عام 1889م قدم آلان جمس إلى جنوب إفريقيا ممثلاً لشركة أسكتلندية تسمى أفريكان جولد، وأعلن أن شركته استطاعت أن تصل إلى معالجة كيميائية يمكن بها فصل الذهب عن سائر الخبث، باستخدام السيانيد.. ولا شك أن استخدام السيانيد ليس جديداً، لكنه كان يقوم بتحريك السيانيد عدة مرات، ثم يقوم بتصفيته، وبعد ذلك يضيف إليه الزنك لترسيبه.
كانت عملية تطوير استخدام السيانيد لتكون أكثر فاعليه قد تمت على يد أحد كيميائيي مدينة جلاسكو الإنجليزية واسمه جون ستيوان آرثر، وقد شارك مع طبيبين كان لهما نفس الاهتمام، وإن كانت لعلاج البشر، وليس الحجر، وهما روبرت ووليام فورست، وينقل لنا آرثر لمحة بسيطة عن الوقت الذي كانوا يقضونه معاً للوصول إلى ماكانوا يصبون إليه فيقول: (في حجرة تقع تحت غرف الاستشارة للطبيبين، كنا نقوم بمعظم العمل من الساعة الثامنة مساءً، وحتى الثانية فجراً، بعد أن يكون الطبيبان قد أنهيا عملهما اليومي، وقد جرت العادة أن نأكل الفطائر ونحتسي الشاي بعد إحضارها من أحد المطاعم القريبة، وعندما يغالبنا النعاس، كان الدكتور روبرت يحضر لنا قارورة بها مزيج غريب، كتبت عليها « منشط الأطفال» ويطوف بها علينا لنبقى مستيقظين).
لقد تم عمل معمل صغير لعمل التجارب المعملية اللازمة، وكانت النتائج مبهرة، وانتقلت الفكرة من المعمل إلى العمل الميداني فكان لهم ما أرادوا، وكان بإمكانهم الاستفادة من أكوام الخبث المنتشرة هنا وهناك، وتحويلها بصورة مريحة إلى الذهب.
هنا بدأت شركة أفريكان جولد بالتفاوض مع شركات التعدين الأخرى، للاستفادة من هذه الطريقة الفعالة، بشرط، أن تدفع تلك الشركات مبلغاً وقدره دولار وخمسة وثلاثون سنتاً، مقابل كل أونصة ذهب يتم الحصول عليه بهذه الطريقة التي أصبحت الشركة تملك امتيازها، وكان سعر الأونصة العالمي في ذلك الوقت بحدود واحد وعشرين دولاراً للأونصة، لقد كان ذلك المبلغ الذي تحصل عليه الشركة دون عناء، مبلغاً كبيراً جداً.
هكذا أصبحت الطريقة الجديدة، فعالة علمياً ومالياً، وباستخدام هذه الطريقة ارتفع قيمة إنتاج الذهب في جنوب إفريقيا إلى عشرين مليون جنيه إسترليني قبل انتهاء القرن، وهذا ما كان قد توقعه الاستشاري روسي عام 1990م، في وقت كان فيه جميع الإنتاج العالمي يقرب من ذلك بقليل.
ارتفع إنتاج الذهب من أقل من طن عند اكتشافه الأول في مزرعة الأرملة، وعلى يد جارها عام 1886م، حتى بلغ ما يقرب مائة وعشرين مليون طن عام 1898م، وقبل اندلاع حرب البوير هناك. وهكذا كان فعل الخير الذي قام به جورج هارسون، وربما كان بمقابل بسيط، لكنه كان عملاً خيراً في غايته، مبعث خير عميم، ورزق واسع لجنوب إفريقيا، كما أنه كان أيضاً حافزاً لوصول أعداد من الأوروبيين الذين كان لديهم قسط من التعليم، فأصبحت جنوب إفريقيا برجالها ونسائها الأصليين والوافدين، واحدة من دول العالم الغنية، والمشاركة في ميادين الصناعة والعلوم، وتوفير الموارد الأولية بكميات جيدة.
وفي المقال القادم سيتم تسليط الضوء على مآل تلك الشركة العملاقة صاحبة الامتياز.