د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في العمر مرحلةٌ للتأمل لا للتحمُّل ولا للتجمُّل، تجيء قربَ انصرامه ليحِلَّ الهدوء محل الضجيج، والوئام مكان الخصام، والتسامح بديلاً عن الاحتراب، والسكينة لينتفي الاضطراب، والمباشرة مقام التورية والتواري، ويُروى عن الشاعر والسياسي اليمني «أحمد الحضراني» أنه -وقد عُمِّر طويلاً بالغ فيه بعضهم فتجاوزوا به مئة وثلاثين عامًا وحدده معجم البابطين بأقل من ذلك 1893- 1987م- قال إثر إقامته في الطائف:
وقائلةٍ أراك سلوتَ عنا
وأزمعتَ المُقام بسفح «وُجِّ»
فقلتُ دعي البقيةَ من حياتي
أُقضِّيها بلا هرْجٍ ومرجِ
** وجد ضالته في حياة هانئة نائية عن الصراعات، وربما أدرك أن التائه في يومه وغده من يصغي للصخب؛ يرتاد سمعَه ويُعشي بصرَه ويظن واهمًا أنه يسجل حضوره ويضمن حبوره، وهيهات.
** المسألة هنا متصلة بمعرفة أنفسنا بدءًا وأحوالنا تاليًا ومآلنا منتهى، ويُهوّن بعضُنا أمور الحياة فيعيشها طولاً وعرضًا، ويَروي صدقًا وكذبًا، ويحكم عدلاً وجورًا، ويمتدُّ عمرًا ويسوء عملاً، والمؤدى لحظة فرَّت من الزمن ستحاصره يومًا وتخاصره دومًا، وقد يتمنى صحفَ دنياه وقد طُمست؛ فماذا عن صحف أُخراه؟!
** قد يفسر هذا بعضَ مظاهر العزلة التي يلجأُ إليها احتسابًا أو محاسبةً ثلةٌ من ذوي البصر والبصيرة حين ينفضُّ السامرُ عنهم أو ينفضُّون عنه فتقودهم العزلة إلى الاعتزال ويدفعهم التفكير بمسيرتهم إلى التفكر بمصيرهم؛ فهل تسعفهم الأيام لاستعادة وهجٍ والتخلص من إرث والتعويض عن عمر؟!
** ولو افترض واحدُنا أن أمامه ساعات قبل الرحيل فما الذي سيصنعه خلالها؟ وكم هم الذين سيتحللُ منهم؟ وما الأقوال والأفعال التي سيسعى للبراءة منها؟ وماذا عن المظالم التي سيحرص على ردها والأموال التي سيتخلص منها؟ وكم هم الذين غادروا من غير أن يسامحوه عن غيبة أو نميمة أو شتيمة أو أدنى من ذلك أو أشد ويعلم أن موعد لقائهم قد أزف؟
** وكما للإنسان عمرٌ «زمني» و»عقلي» فالمفترض أن يكون له عمرٌ «سلوكي» يمثل عمله الطيب وعمله السيئ، وعمر «وجداني» يحدد سعادته وتعاسته، وعمر «وظيفي» يتجسد فيه وصلُه ووصوليتُه، وعمرٌ «هباء» أو»غُثاء» ضلت فيه بوصلتُه، وفي كل هذه الأعمار وسواها مسارٌ يرسمه المرء بنفسه لنفسه فيحيا في الظل أو تحت الشمس؛ لا تتبدل قيمُ الخير فيه ولا تتعاظم قوى الشر داخله ولا تعلو الـ»هو» على «الأنا العليا» ولا تَسُود الأنا الطامعة فتُسوِّد أحلامه، ويعطي نفسه حقها كما لا يشحّ بحقوق الآخرين فيستمتع ويُمتع، ويأنس ويُستأنس؛ فكذا نعلم ومن هنا نتعلم.
** من خط النهاية يبدو أن التقاعد قبل الإقعاد مطلبُ حياة، والترتيب لما بعده مركبُ نجاة، وثمة حسابٌ للإنجاز لكنّ له حكايةً أخرى.
** المسافات لا تدوم.