د. عيد بن مسعود الجهني
اصطلاح قانون التجارة الدولية أو القانون التجاري الدولي مجموعة قواعد قانونية استقرت في العرف، مستمدة من عادات التجارة التي استمرت زمناً طويلاً في الأسواق العالمية، خاصة في كل من ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا حيث كانت تفض المنازعات التجارية بطريق التحكيم عندما بدأ قيام المعارض والأسواق في تلك الدول.
ومع تطور المجتمعات البشرية وتقدمها واتساع نطاق التجارة الدولية أصبح التحكيم علامة بارزة في المجتمع الدولي وأصبحت الأغلبية العظمى من العقود الدولية لا تخلو من شرط التحكيم.
هذا لأن ازدهار التجارة في العصر الحديث أحدث زيادة متسارعة في العقود والمشارطات، ونتيجة لاختلاف اللهجات واللغات زادت الخلافات، وأصبح الأمر يحتاج إلى علاج لذلك، إذ الأمر يتطلب سرعة في البت مع بقاء العلاقات قائمة على الود حتى لا يؤثر فيها ما كان يؤثر في اللجوء إلى القاضي وما يترتب عليه من دفاع ودفوع، ومن تأخير في الفصل في النزاع وقد تفنن في ذلك الناس، كما يترتب عليه عدم التقيد بالنصوص القانونية مادامت هذه النصوص ليست من قواعد النظام العام أو من المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم.
ومع تزايد الاهتمام بالتنمية الاقتصادية وتوسيع دائرة التجارة الدولية ودور منظمة التجارة الدولية، فإن الدول وأشخاص القانون العام لا بد لها من التدخل في إبرام أو في الإشراف والرقابة على عقود التنمية الاقتصادية، وهذا يجعل التحكيم الوسيلة الملائمة لفض الخلافات التي قد تثور بمناسبة تنفيذ هذه العقود التي تمثل الشركات متعددة الجنسيات طرفها التقليدي في هذا العصر.
وحيث إن الدول أو أشخاص القانون العام من الصعب أن تخضع للقضاء الأجنبي، أما التحكيم فهي تشارك فيه باختيار المحكمين واختيار القانون واجب التطبيق فضلاً عن وجود اتفاقيات دولية تنظمه في المنازعات التي تثور بين الدول ورعاياها ورعايا دولة أخرى خاصة في مجال الاستثمار.
لذا أصبح التحكيم من مسلمات عقود التجارة الدولية حيث أضحى النص عليه في العقود مسألة مهمة أكدت أهمية التحكيم كوسيلة سريعة لفض كل أنواع المنازعات خاصة في ظل العولمة Globlization بوجوهها المتعددة سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وما صاحبها من تنقل رؤوس الأموال بشكل غير مسبوق وانحسار الحدود خاصة بعد بروز منظمة التجارة العالمية (TWO)، وما صاحبها من هيمنة للرأسمالية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وسيادة الرأسمالية التي فرضت هيمنة الدول الصناعية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على أغلبية دول العالم.
وقد دعم نظام منظمة التجارة العالمية التحكيم الدولي وصار هو الملاذ لإيجاد الحلول المناسبة أمام المتنازعين على نحو يتفادى الصعوبات والتعقيدات التي قد توجد في القوانين والأنظمة الداخلية - بل إن كثيراً من الدول قد عدلت من قوانينها حتى تتلاءم مع روح العصر وما تتمخض عنه المعاملات التجارية في ظل العولمة ونظام منظمة التجارة العالمية.
ولما كان الأمر كما سبق، دعت الحياة في القرنين الأخيرين إلى أن تنظم الدول التحكيم بوضع القواعد والشروط المنظمة له، والنصوص المتطلبة لنظر الخلافات، وكيفية تنفيذ أحكام المحكمين، ومع تطور التجارة ونمو الاقتصاد وقيام الغرف التجارية التي تقوم على مصالح أصحاب التجارة والشركات والمؤسسات التجارية ورجال الأعمال قامت هذه الغرف بدورها مبتغية ذات الهدف من أن يختار المتخاصم قاضيه، متجنباً الأوضاع القانونية المتشابكة حسبما هو معروف ومألوف، فيرضى بحكم قاضيه، ويطمئن إلى ما انتهى إليه فيه ومثال ذلك هيئات التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية، وهيئة التحكيم الخاصة باللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة ومحكمة التحكيم البولندية والمجلس الهندي للتحكيم، وغرفة التحكيم الأمريكية، وغيرها كثير، وقد وضعت هذه الهيئات لوائح لديها لبيان إجراءات التحكيم، كما أعدت جداول المتخصصين للتحكيم.
ويمكننا القول إن شرط التحكيم في العلاقات التجارية الدولية أصبح شرطاً عاماً في كل العقود سواء ما يبرمه الأفراد أو تبرمه الحكومات مع الشركات الخاصة بحيث أصبحت محوراً في التجارة الدولية، لسرعة البت في الموضوع، وعدم تعدد درجات التقاضي من استئناف ونقض أو تمييز، وحتى العقود التي خلت من شرط التحكيم أصبح اللجوء إليه بعد قيام الخلاف مأخوذا به بمشارطة للتحكيم.
وبمقتضى اتفاق التحكيم تتعهد الأطراف بأن يتم الفصل في المنازعات الناشئة بينهم أو المحتمل نشوؤها من خلال التحكيم إذا كانت المنازعات تتعلق بالتجارة الدولية، وفي مجالات العلاقات بين الدول أصبح الاتصال سهلاً والحاجات متطورة ومتعددة والتجارة أصبحت أساساً للاقتصاد النامي في جميع الدول على السواء، وزاد من ذلك تطور الصناعة وتقدمها، مما ترتب عليه زيادة العلاقات التجارية التعاقدية والاختلاف بين المتعاقدين في تفسير عقودهم.
كما أن تعدد اللغات في كتابة العقود أدى إلى خلافات في التفسير وتطبيق العقود، وعملاً على سرعة البت في مثل هذه الاختلافات مع بقاء العلاقات على ما هي عليه، ولتجنب الإجراءات القضائية الطويلة وتسوية المنازعات ودياً، لجأت كثير من النظم في القانون المقارن إلى تنظيم التحكيم وبيان طريقه، وهذا إقرار من الدول بجواز اللجوء إلى التحكيم حفظاً لما سار عليه الناس من قبل واطمأنوا إليه.
يتضح أنه باتساع مجالات التجارة الدولية وازدياد أهميتها في العصر الحديث صار التحكيم عنصراً أساسياً ومؤثراً في النشاط التجاري والاقتصادي على المستوى الوطني والدولي على نحو يؤدى إلى تدعيم العلاقات التجارية ويزيد من أثرها وفعاليتها وأن الجزاءات التي تفرض ذات طابع خاص ينطوي على اعتبارات أخلاقية ومهنية وحرفية عادة ما تلتزم بها أوساط التجارة في معاملاتها بأسلوب ينطوي على البساطة يتفادى إجراءات التقاضي الطويلة التي تستغرق وقتاً طويلاً.
لهذا يجد المتنازعون أن من مصلحتهم إتباع طريق التحكيم والاتفاق في عقودهم أو في مشارطة التحكيم على الجهة التي تتولى التحكيم في النزاع القائم بينهم أو الذي يقوم بينهم في المستقبل، كما يتفقون على القواعد التي يرتضونها بالتحكيم باعتباره أداة للثقة والطمأنينة مما ينعكس إيجابياً في المجالات الاقتصادية على المستوى الوطني والدولي.