عبدالعزيز السماري
كان آخر عهدي برواندا فظائع الإبادة الجماعية التي وقعت عام 1994، التي ذُبح فيها ما يصل إلى مليون شخص، وهو ما يقرب من 20 في المائة من السكان، في غضون 100 يوم. ومنذ ذلك الوقت لم نسمع سوى القليل عن هذا البلد الصغير غير المكتظ بالسكان في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. لكن خلال هذه الفترة القصيرة قدمت رواندا دروسًا رائعة في كيفية تحقيق التحول المستدام، وكيف تثبت للعالم أن تحقيق المستحيل ليس مستحيلاً..
بعد فظائع الإبادة الجماعية كانت رواندا في حالة من الفوضى. انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى 416 دولارًا، ودُمرت بأكملها، وكُسر المجتمع تمامًا، ولم تكن هناك أي مساعدة من قِبل ما يسمى العالم المتقدم، وكان على الروانديين أن يفرزوا الفوضى بأنفسهم. قررت رواندا إعادة البناء من نقطة الصفر، وكانت البداية تقوم على تجاوز الجراح العميقة والانقسامات الاجتماعية، ومن ثم إرسالها إلى الماضي، واستخدمت المحاكم المحلية التقليدية كمحفل؛ إذ يمكن للناس أن يتحدثوا عما مروا به، ويخوضوا عملية شفاء ومغفرة، وتم تقديم الجناة إلى العدالة، ثم بدأت عملية إعادة البناء.
تم تنفيذ عملية ديمقراطية غير مكتملة، لكن ضرورية، مع توجيه واضح من المركز الجديد بنشر اللامركزية كمنهج لإخراج البلاد من الفساد، وتم تمكين النساء، ووضع برنامج للقضاء على الفساد، وبدء برامج تعليمية، وإنشاء جامعات جديدة.
تم تخفيض البيروقراطية إلى أدنى درجاتها، وتم تمكين المواطن من إنشاء مشروع تجاري، وتشغيله في يوم طلبه نفسه في بلد لا توجد به نفط أو معادن أو «موارد طبيعية» تقليدية أخرى. وتمكنت رواندا في زمن قياسي من أن تضع لنفسها هدفًا من أجل أن تصبح مركزًا لاستثمار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتنمية، وفي برامج التعليم العالي.
المعجزة الرواندية حدثت من خلال جهد ذاتي؛ فقد سنُّوا القوانين الضرورية لتجاوز الأزمة، لكنها لم تكن كافية لمواجهة التعصب والجهل والعنف؛ فالتعصب والعنف متجذران في ثنائية الجهل والخوف: الخوف من المجهول، من الآخر، والثقافات والأمم والأديان الأخرى.
كما يرتبط التعصب ارتباطًا وثيقًا بشعور مبالغ فيه من الذات، والاعتزاز المبني على التخلف، سواء كان شخصيًّا أو وطنيًّا أو دينيًّا. وفي المجتمعات الجاهلة يتم تدريس هذه الأفكار وتعلمها في سِن مبكرة؛ لذلك تجاوزت السلطة الجديدة في رواندا هذه الألغام من خلال التركيز بشكل أكبر على التعليم بشكل أفضل، وتم بذل المزيد من الجهود لتعليم الأطفال مبكرًا حول التسامح وحقوق الإنسان.
التعليم هو تجربة مدى الحياة، ولا يبدأ أو ينتهي في المدرسة، ولن تنجح الجهود الرامية إلى بناء التسامح من خلال التعليم ما لم تصل إلى جميع الفئات العمرية، وتحدث في كل مكان: في المنزل، وفي المدارس، وفي مكان العمل، وفي إنفاذ القانون والتدريب القانوني.. وليس أقلها في الترفيه، وعلى الطرق السريعة للمعلومات.
كانت تلك الوصفة السحرية لإخراج البلاد من الهمجية إلى حيث الإنسانية بكامل صورتها في قلب إفريقيا، وكانت أولى خطواتهم في السعي لقتل العنجهية والكبرياء المبنيَّيْن على الجهالة في مجتمع بدائي، وتم تحقيق المعجزة في زمن قياسي.
ما تحتاج إليه المجتمعات العربية هو التنازل عن تلك الفوقية والشوفونية، وأن تبدأ ممارسة التواضع ذاتيًّا، والتخلص من النعرات الموروثة من عصور الجهل والتخلف؛ فالعصر الذي نعيش فيه يختلف تمامًا عن الماضي، ويحتاج إلى أن يتجاوز تحدياته مثلما فعلوا في رواندا، وكانت النتيجة مجتمعًا يتسع للجميع، ويسمح للبلاد بأن تصل إلى أهدافها في أقرب زمن ممكن.