«الجزيرة» - المحليات:
ظلت المنطقة الشمالية من الجزيرة العربية محط أقلام واهتمام الرحالة من غير العرب فحظيت برحلات مقصودة لغناها الأثري، ولعلاقاتها بحضارات إنسانية عريقة وسحيقة، وكونها البوابة الرئيسة لوسط الجزيرة العربية، ولهم العديد من المدونات التي تظهر أهمية شبه الجزيرة العربية، فتفاصيل مدنها وتراث بلدانها خير شاهد على ذلك، كما أن القيمة العلمية لما كتبه هؤلاء الرحالة وما قدموه من معلومات يجعل أدب تاريخ شبه الجزيرة مادة أولية لا غنى عنها لأي باحث في تاريخ أحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
توثيق دارة الملك عبد العزيز
وثقت دارة الملك عبدالعزيز ضمن هدفها للعناية بمصادر التاريخ الوطني وتاريخ شبه الجزيرة العربية ما كتبه الرحالة الغربيون والشرقيون عن الجزيرة العربية كون هذه المدونات الراصدة تمثل المعالم الأولى للتدوين عن الجزيرة العربية التي تعد إحدى الحاضنات البشرية القديمة، في ظل انشغال الإنسان فيها بلقمة العيش والترحال، إضافة إلى ندرة الكتاب واقتصار اهتماماتهم، وقدمت هذه المدونات إلى حركة البحث العلمي تسهيلاً وتشجيعاً، وشملت قائمة إصداراتها ما يقارب 20 كتاباً، واتبعت في ذلك التنوع فمن رحالة ياباني (إيجيرو) إلى رحالة إسباني (دومنجو باديا) إلى الألماني (أوينتغ) إلى (غرانت سي بتلر) الأمريكي وغيرهم، كما أخذت في الاعتبار لترجمتها التنوع في تغطية الأزمنة التاريخية، إلا أن الحقيقة المهمة أن الرحالة الغربيون الذين جابوا الجزيرة العربية تركوا بصمة علمية مهمة عن تاريخها، كما أنها أثْرت سيرتهم العلمية لثراها المعلوماتي وندرة المنشور عنه، ومع بساطة بعض يومياتهم وأحياناً صعوبتها التي تبدو لعامة القراء إلا أن الباحث النوعي يخرج منها بمعلومات ودلالات كثيرة بالمقارنة والربط والمقاربة مع مصادر أخرى، وتقوم الدارة بتصحيح المعلومات الخاطئة بالتعليق في الهوامش عند النشر وتلك ميزة علمية وحقوقية في أعمالها.
معلومات غزيرة عن الشمال
وتعدّ رحلة الألماني (جوليوس أوينتغ) إلى شبه الجزيرة العربية عام (1883م) من الزيارات العلمية المهمة حيث حصل من خلالها على آلاف النقوش التاريخية، وبعد عشر سنوات من انقضاء تلك الرحلة قرر نشر يومياته عنها، وقال: إنه لاحظ أثناء زيارته إلى المنطقة اللهجة التي يتحدث بها أهلها، ودون الكثير منها - حسب ما سجله في كتاب رحلة داخل الجزيرة العربية.
كما زار قرى عدة كان منها قرية (إثرة) التي يكثر فيها الصيد، يقول أوينتغ: «عند دخولنا إلى القرية لاحظت جمال ألوان الجمال الملفتة للنظر، وكان على الأرض حجر في منتصفه فتحة، قال لي أحدهم إن الناس يجهزون بارود الطلقات فيه»، ويسرد أيضاً أن أحد الشيوخ في قرية إثرة استضافه وقدم له التمر الأصفر (بسر) والقهوة، وأعدّ له وجبة من الباذنجان والبامية والخبز، وبعد الأكل جلس في حدائق النخيل مستمتعاً بالينابيع والبرك، وأثناء غفوته أتى غلمان بعد الظهيرة ليستحموا استعداداً للصيد، وقف أوينتغ متأملاً في تفاصيل منزل الشيخ، لاحظ فوق باب المدخل على عتبة الدار العليا الحجرية شكل هلال متقن الصنع، وبجانبه علامات الوسم المنقوشة، وفوقها كتابة عربية قديمة نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون» وعلى الحائط الشرقي للقصر الأثري يوجد حجر جميل يقف على حاملين.
ووصف أوينتغ باستمتاع ودقة الأودية التي مر بها في المنطقة ومنها وادي السرحان، فكان يسير فيه حافي القدمين مستمتعاً بماء السيول، ويمتاز ماء المنطقة بما فيها ماء الوادي والماء الذي يستخرج من باطن الأرض بالملوحة، كما اكتسب أوينتغ خبرة في استخراج الملح من الأرض فيروي قائلاً: «حول الخبرة في استخراج الملح تمكنت من معرفة أن قاع وادي السرحان العريض بتشعباته الكثيرة، يضم في ثلثه الأعلى مقادير من الطبقات المالحة التي تكون في أوقات السنة الغنية بالمياه بحاراً أو مستنقعات من المياه المحتوية على الملح، وفي غير هذا المكان أيضاً وعندما تفيض الغدران بالمياه يظهر ذلك الملح بكميات وافرة على سطح الأرض ويمكن لأي شخص أخذ الكمية التي يرغب فيها بالمجان ولكن هذه الغنيمة تكون رطبة تحتاج إلى تجفيف خاص».
وكان للرحالة الفرنسي (تشارلز هوبر) الذي كان برفقة أوينتغ تأملات حول وادي السرحان نفسه، ففي إحدى مشاهداته يخبرنا قائلاً: «في وادي السرحان وقع ناظري على منظر رائع، فعلى مرمى البصر كانت الأرض ملساء تماماً، مغطاة بطبقة رقيقة من الملح ناصع البياض، حيث كان من الصعب حتى التفكير في عبورها لأنه فوق طبقة الملح كانت الأرض رطبة ولزجة للدرجة التي تجعل الإبل لا تستطيع أن تسير فوقها ولكن يوجد ممر ضيق يحاذي هذه السبخة وفي بعض الأماكن توجد صخور على الجانب الأيمن تمكننا من عبور أجزاء منها».
ولغيرهم من الرحالة غير العرب العديد من المدونات التي تظهر أهمية شبه الجزيرة العربية، فتفاصيل مدنها وتراث بلدانها خير شاهد على ذلك. كما أن القيمة العلمية لما كتبه هؤلاء الرحالة وما قدموه من معلومات يجعل أدب تاريخ شبه الجزيرة مادة أولية لا غنى عنها لأي باحث في تاريخ أحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.