عبده الأسمري
كان بائع الكتب في العصور الإسلامية الأولى لا ينتظر الإعلان عن بضاعته حيث يتهافت عليه المتسوقون بحثًا عن الفائدة في وقت كانت حينها الأسواق الشعبية مراكز معرفية شهيرة توزع الحكمة.. وظلت المعرفة «الضالة» التي يلاحقها الباحثون عن أسئلة الذات وإشباع غرور التعلم فدخلت مجالات العلم الإسلامي عقر دور أوروبا وآسيا وإفريقيا ووصلت إلى الصين فكانت الانتصارات المعرفية جنبا إلى جنب مع الفتوحات الإسلامية.. لذا لا تزال حكم ومآثر العلماء المسلمين تصلنا حتى اليوم في هيئة مواعظ وانتصار حقيقي للعلم رغما عن التقنية المشؤومة التي خلطت الحابل بالنابل والأصيل بالهزيل وأزاحت من عالمنا أصوات تصفح الورق ومشاهد الكتب..
عندما كانت الكتاتيب البدائية والغرف المستأجرة مكانا وحيدا لتعليم الصبية في زمن مضى خرج من بواباتها علماء وحكماء وأكابر في الأخلاق والعلم.. فلا خير في تعليم إن لم تتعتق مناهجه بسمو الخلق وتنعتق من روتينية التلقين..كانت حينها الأعداد قليلة والموارد معدومة والوسائل التعليمية لا تتجاوز عالمًا يقرأ ومتعلمًا يستمع ثم يبحث ويلاحق العلم من بلد إلى بلد دون وسائل مواصلات وبلا دعم سوى جهود ذاتية فخرجت لدينا أجيال عباقرة بمعنى الكلمة في شتى العلوم.
تخرج من حلقات التعليم في الحرمين المكي والمدني عشرات العلماء وتتلمذ على أيديهم مئات التلامذة الذين أصبحوا قامات علم وقيم منهج.. فيما أنتجت كتاتيب المملكة عباقرة العلوم والآداب..
لدينا مئات الرواد في العلوم والطب والهندسة والأدب والاجتماع الذين نفتخر بهم ونتشرف بعطاءاتهم التي ملأت المكتبات بالثراء العقلي.. ولكننا لم نرَ الاستفادة الحقيقية من هؤلاء.. في مناهجنا وفي مدارسنا ووسط محاضراتنا وورش أعمالنا.
بيننا عشرات الأثرياء عقليا الذين بإمكانهم بسط ثرواتهم المعرفية والعلمية في كل مواقع المعرفة والتعلم ابتداءً بالمدارس وانتهاء بقرارات الوزراء وتوصيات مجلس الشورى وتخطيط مؤسسات المجتمع المدني ومخرجات الجامعات.
أتعجب من قوائم الشخصيات الأقوى عالميًا والأكثر تأثيرًا وفوربس للشخصيات الغنية ولا أرى قوائم للأثرياء علميًا وعقليًا والأكثر إسهامًا في المعرفة وهنا لا بد من الإشارة والإشادة بكل محافل التكريم الذي تضطلع به جوائزنا العالمية مثل جائزة الملك فيصل وجوائز مهرجان الجنادرية وبعض الجوائز التي تشرف عليها جهات خاصة ولكننا نتطلع إلى جوائز أخرى وإلى قوائم أكثر تنافسًا تغنينا عن ترتيب الجامعات السعودية التي لم يؤخذ في اعتبارات تقييمها حجم العلماء بداخلها ومقدار الثروة المعرفية التي جمعتها عقول أساتذتها الذين انشغلوا بالبحوث الوطنية والمباحث التخصصية ولم يلاحقوا الجوائز والمسابقات فأين هم من قوائم التنافس ورفع أسمائهم وطنيًا وتصدير عطاءاتهم الى الخارج لمنافسة العالم بشكل مكثف بعيدًا عن تكريم يأتينا من الخارج وفق استفادة تعود على بلاد التكريم.
لدينا ثروة كبرى نتجت من عقول زاخرة بالعلم فاخرة بالتعلم ولكن من المؤلم أن تظل حبيسة المجلات العلمية التي تستفيد منها ومن المستغرب أنها تظل مركونة في المكتبات يلجأ إليها طلاب الدراسات العليا للبحوث معتمدين على المكتبات التي تجهز البحث لطالب العلم دون عناء.. لماذا لا تكون هذه الثروة موزعة على المناهج منشورة في محافل العطاءات؟ لماذا تغيب أسماء منتجيها في معارض الكتاب وفي مناشط الثقافة؟ لماذا لا نرى مثل هذه النماذج في القطاع الاستشاري للوزارات التي تتقاطع مهامها مع علمهم وثرائهم العقلي وإثرائهم المعرفي؟
الدور على ما تحمله كل وزارة وكل قطاع في أجنداتهم لتحقيق خططهم المستقبلية بالاستفادة من الأثرياء عقليًا.. فالمعرفة أساس والعلم نبراس نحو بناء مستقبل متميز غني بثروات العقول وإثراءات العباقرة.