د. حسن بن فهد الهويمل
عشت في خوف، وترقّب قضية اختفاء المعارض السعودي منذ أن تولى [الإعلام المناوئ] عبر قناة الضرار التي قال عنها أحد أزلامها: إنها صهيونية، مفرّقة للكلمة ومنذ أن جُنِّدَ لها كلُّ همازٍ، مشاءٍ بنميم.
لقد كانت أياماً عصيبة، تفنن المغرضون في تقليب أمورها حتى أصبح العالم كله في أمر مريح.
أعرف جيداً، أن الحدث لا يستحق كل هذه الضجة، فكم سبقه من اغتيالات، وتصفيات على مختلف المستويات، ولم يحتل شيء منها ما احتله حادث المعارض السعودي.
لا أقول هذا استخفافاً بحياة أي إنسان، فَضْلاً عن أي مواطن، ولا تبريراً لهذا الحدث المؤلم، ولكن استغلاله بهذا الشكل جاء لتوهين عزمات المملكة.
هو حدث فظيع، لا شك فيه، ويسوء كل مواطن سعودي أن يحصل في العرف [الدبلوماسي] على أرض سعودية.
لا اعتراض عندي على تداوله، واستنكاره بنوايا حسنة، لا تسابق الأحداث، ولا تضخّمها، ولا تضع المملكة بتلك الصورة البشعة.
ثقتي بسياسة المملكة تحول دون توقّع إقدامها مع سبق الإصرار على تصفية أي معارض مهما شكل من الخطورة.
والمعارض نفسه يمتلك هذه الثقة، ومن ثم لم يتردد في دخول القنصلية مرتين. لأنها دولة ليست لها سوابق، ولا يمكن أن تقدم على تصفية أي خصم، مهما شكلت معارضته من خطورة.
نعم المملكة لها مشاريعها الأمنية، فهي تسعى لاحتواء أي معارض، أو تحييده، وقد تباشر متابعته، والتواصل معه عبر الوسطاء، وقد تحدد علاقتها مع أي دولة توفر للمعارض إمكانيات الإيذاء.
ومن حق أي دولة أن تفكر، وأن تخطط، وأن تباشر العمل لمواجهة أي ضرر. بحيث تقي نفسها، وشعبها، ومثمناتها أي استهداف.
ولا سيما أن المملكة تضع يدها على مثمنات: حسية، ومعنوية، لا يجوز التفريط في شيء منها.
عندما اندلقت أقتاب المشكلة، ووجد الإعلام المناوئ فيها رئة ينفث من خلالها سمومه. عدت أسأل عن حقيقة [جمال خاشقجي]
- من يكون؟
- وهل يشكل خطورة على المملكة؟
- وهل هو الأهم من بين سائر المعارضين؟
- وهل المملكة في ظل الظروف المتأججة بحاجة إلى إضافة أعباء أخرى؟
قرأت عنه حتى بشمت، واستمعت كل تسجيلاته، وكل ما قيل عنه حتى أصابني الصداع، وقفت على قراءات غرائبية. بحيث قيل فيه، وعنه ما يفتح شهية كل متحدث.
جاء من [أمريكا] إلى [تركيا]، وفيها كل الأعداء. ودخل بمحض إرادته [القنصلية السعودية] واثقاً بعدل دولته، وخوفها من الزلات القادحة بالمروءة، ومات فيها، هذه حقيقة أعلنها [النائب العام].
الأجهزة [الاستخباراتية] في المملكة عندها الضوء الأخضر لاحتواء المعارضين، والتعامل معهم بالتي هي أحسن، ولهذا فهي تمارس أدوارها بحرية تامة، وكم من معارض أسكتته، وكم من معارض حيدته، وكم من معارض استعادته.
ولهذا فهي تمارس عملها في هذه المسائل دون الرجوع إلى الجهات العليا. الجهات العليا لم تفوّضها بالقتل بل، ولا بالاعتداء.
وجاءت الكارثة بإعلان وفاته، لقد تم تشكيل فريق أمني، ليتولى احتواءه أو تحييده داخل القنصلية.
وتمت المواجهة، وكل طرف ركن إلى توقعاته. فالمعارض يعرف أنه لن يغدر به، ولا سيما أنه داخل القنصلية، وتحت رصد [الكمرات] المزدوجة.
الفريق الأمني السعودي لم يتوقع منه العناد، والتطاول، ولربما أنه رفض أي محادثة تؤدي إلى كسبه، ونجاح الفريق الأمني بمهمته.
لقد حدث ما لم يتوقّعه أحد، مات المعارض، وأسقط في أيدي الفريق، فأعطوا للسلطة معلومات غير صحيحة، وتخلصوا من جثته، ظناً منهم أن الأمور ستمر بسلام.
الدولة ركنت إلى ما زُوِّدَتْ به من معلومات غير صحيحة، ولكنها لم تمض معها إلى النهاية.
بعثت فريق تحقيق، بالإضافة إلى تحقيق الدولة [التركية]، وتوصل الفريقان إلى حقائق مذهلة، لم تكن في حسبان الدولتين، ولا في حسبان المواطن السعودي.
وساعتها واجهت الدولة شعبها، والعالم بالحقائق.
كارثة بكل المقاييس، دولة بوزن السعودية وبأخلاقياتها، وبعدلها يموت معارض داخل قنصليتها، وعلى يد رجال أمن لم يؤذن لهم بالإيذاء فضلاً عن القتل.
إنها صدمة كبرى، هزت الضمير السعودي: حكومةً، وشعباً.
وحين حصحص الحق لم يسلم منها أحد في القطاع [الاستخباراتي] الذي لم يحسن الاختيار، ولم يحسن التوقيت.
فالزمن بكل رواجفه لا يحتمل مثل ذلك، والبلد المضيف ليس مناسباً لمثل هذه المحاولة الفاشلة.
المملكة حين استبان لها الحق، لم تتردد في إعلانه، وفتح ملفات القضية، ومحاكمتها لكافة الأطراف، وإعفاء كل الأطراف الذين لم يقتلوا، ولم يأمروا به، ولكنهم كانوا من أسبابه.
الرؤوس المدبرة في الاستخبارات. والمباشرون لعملية المواجهة، والقتل في قبضة العدالة.
وأسرة المتوفى تقبلت المصيبة، وقابلت ولي الأمر، وتنازلت عن حقها، وهذا مؤشر ثقة بعدل القضاء، واستقلاليته، ونزاهته.
ما نوده من الجميع أن يراقبوا الله في مثل هذه الفتن، وأن يعرفوا أن القاعد فيها خير من القائم، وأن الصامت خير من المتكلم.
للمعارض المتوفى حقه، ولأهله حقهم. والقضية في أيد أمينة عادلة، نحسبها كذلك، ولا نزكي على الله أحدا.
لا يجوز أن نفتري على المعارض، فالدولة لم تفتح مِلَفَّه. وهي الخبيرة بدِقِّه، وجُلِّه، وهو قد قدم إلى ربه، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
كما لا يجوز أن نتهم دولتنا التي عودتنا على العدل، والرحمة، والدفع بالتي هي أحسن.
كما لا يجوز أن تهتز ثقتنا برجالات الأمن، و[الاستخبارات] وإن جرت على أيديهم خطيئة فادحة، لا يمكن تصوّرها، ولا احتمالها.
الحدث المؤلم حصل، ولا راد لقضاء الله، وإذ سلم المواطن من دم القتيل فإن عليه أن يحفظ لسانه، لأنه محاسب عليه.
نسأل الله للميت المغفرة، ولذويه الصبر، والسلوان. كما نسأله للذين ابتلاهم الله بهذا الذنب الجلل أن يكون ما حصل منهم نتيجة خطأ، وتصرف غير مبيت.
كما نسأل الله جلَّ وعلا أن يحفظ البلاد من حسد الحاسدين، وكيد الكائدين، وأن يشد عضد قائدنا، وأن يرزقه وولي عهده البطانة الصالحة الناصحة. وأن يرد كيد الأعداء إلى نحورهم، وأن يهيئ لبلاد الحرمين الشريفين أمراً رشدا تعز فيه دولتنا القائمة على الحق، والعدل، والاستقامة على المأمور.
والذين أوجفوا بخيلهم، ورجلهم، لا يهمهم القتيل، وإنما همهم زعزعة الأمن، وتصديع اللحمة الوطنية، وتأليب الرأي العام العالمي على المملكة، ظناً منهم أن الطنين سيوقظ الفتن.
نعم [البعوضة تدمي مقلة الأسد]، وما عملته محاور الشر أساء إلينا، وضخّم الأمر، ووضعنا في مواقف حرجة.
ولكن الله ناصرٌ لدينه، حافظ لمقدساته، مؤيّد للعدل، خاذل للظلم الذي حرّمه على نفسه.
ورب ضارة نافعة، لقد عرفنا أعداءنا. وتعرّت قنوات الضرار، ومواقع الشر، وخيب الرئيس التركي بخطابه كل الظنون، حتى قالت بعض النائحات: [رُحْنَا في داهية]. وقُلْن: [عندما تأتي الصَّفقات تذهب المبادئُ، والقِيَمُ] وذلك حين لم يشف خطاب الرئيس ما في صدورهم. لقد انتهت اللعبة، وبقيت آثارها، وعسى أن نكون قادرين على لملمة ذيولها، واتقاء عقابيلها.