د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تترسخ اليوم قناعة لدي كثير من المجتمعات وهي أن العالم انقسم فعلاً لفسطاطين، فسطاط متقدم وفسطاط متخلف أو في أفضل الأحوال يسعى للتطور ويسمى مجازًا بالدول النامية. العالم الأول استخلص التقنيات بشكل موضوعي جماعي في مجتمع يعيش بالمعلومات والتقنية والمعرفة. والفسطاط الثاني عالم يعيش على الجهود الفردية ويلزمه أن يعيش بالعمل الحرفي، أو العمالة اليدوية. يقدم موارده بأبخس الأثمان للعالم الأول ويستوردها بضائع باهظة الثمن. عالم يعيش بالعقل وآخر يعيش بالعضل. هذه للأسف هي الفكرة التي تستند عليها العولمة الرأسمالية التي ترى أيضًا أن قيم الغرب قيم كونية، وشركاتها شركات عالمية يجب أن تشرع أمامها الأبواب وعلى بقية العالم فقط التأقلم معها. وهذا بالطبع ادعاء غربي وللغرب الحق فيه، والمشكلة هي في تصديق كثير من الدول وعلى وجه الخصوص دول ما يسمى بالعالم الثالث لهذا الادعاء والقبول به.
والادعاء أعلاه ليس جديدًا وكان الركيزة الفعلية لاستعمار شعوب الأرض المستضعفة بحجة «الانتداب»، أي انتداب الشعوب المتحضرة البيضاء لتحضير الشعوب الأخرى الملونة، بل ووصفوا ذلك «بالعبء الحضاري للرجل الأبيض» White man burden. ولكن التنافس العنيف بين الشعوب البيضاء ذاتها عجل بنهاية الاستعمار المباشر للشعوب ليستبدل باستعمار غير مباشر. فبريطانيا تلك الجزيرة الصغيرة كانت تحكم امبراطورية لا تغرب عنها الشمس، وتحكم بلادًا ضخمة مثل الصين والهند دونما مقاومة تذكر ليس لقوتها بل لأن هذه الشعوب نفسها ترسخ لديها شعور دوني بأنها لا تستطيع الاستغناء عن بريطانيا العظمى المتقدمة التي تملك تقنيات المكائن البخارية ومصانع الغزل والنسيج، والصناعات العسكرية. المواد الأولية كانت تأتي من الشعوب المستعمرة: الحرير والبورسلان من الصين، والجوت من الهند، والقطن من مصر ليس ذلك فحسب بل إن العمالة في المصانع كانت في غالبيتها من الهند والصين. وكانت بريطانيا تدفع للصين في البداية مقابل البضائع بالذهب والفضة، ثم نشرت إدمان الأفيون في الصين, ونشرت زراعة الأفيون في الهند وصدرته للصين تدفع به مقابل البضائع للتجار الصينيين. وللتذكرة فقط فقد شنت بريطانيا حربين على الصين (1940 و1956م) بسبب اعتراض الصين ومطالبتها بوقف نشر الأفيون الذي فتك بالبلاد.
ويقال إنه لولا العمالة الصينية لما استطاعت بريطانيا بناء شبكتها الهائلة من القطارات. أي أن البريطانيين (والشعوب البيضاء) قدموا العلم والمعرفة والتقنية فقط وأخذوا كل شيء، أما الشعوب الأخرى فقدمت المواد الأولية والأعمال اليدوية الشاقة وحصلوا تقريبا على لا شيء. ولولا الحرب العالمية المدمرة في أوروبا لبقي العالم بما في ذلك الصين مستعمرات بريطانية حتى اليوم.
وفي عالم اليوم الذي يعتمد على التقنية ويهمش الإنسان بشكل متسارع مخيف نجحت الدول الغربية بشكل قوي في إقناع كثير من دول العالم التي لا تملك التقنية بأن التقنية أمر معقد لا يمكن للشعوب الأخرى الوصول له إلا بمساعدة الغرب الذي يمتلكها اليوم. وتُبرز شركات التقنية في السيليكون فالي، وشركات الأدوية والسيارات والطائرات، وجميعها شركات عابرة للقارات ومتعددة الهوية كأمثلة قوية ترسخ مثل هذا الاعتقاد. وتمتلك هذه الشركات الضخمة تقنيات مهولة، ولكن ليست كل شركات التقنية بهذا الحجم ولا بتلك الصعوبة. وهناك بلدان كالصين أوقفت عمل محركات البحث الأمريكية، واستبدلتها بصينية بسبب أن رأت في تلك التقنية أدوات تجسسية تخترق خصوصيات مجتمعها، وبدأت بعض الدول في المنافسة على أسواق هذه الشركات عالميا. وأثبتت دول مثل اليابان والصين وكوريا والهند أن التقنية متاحة للبشرية جمعاء وأن تقنيات النسيج ليست حكرًا على الإنجليز، وتقنيات الكمبيوتر ليست حصرًا على الأمريكان وهلم جرا. وبرزت علي بابا كمنافس قوي لأمازون أكبر شركة في أمريكا والعالم. ويقال إن الصين تعمل على تطوير محرك بحب آسيوي ينافس قوقل، ولذا يشن دونالد ترامب حربًا شعواء عليها.
لكن ماذا عن حال العرب؟ فلا زالوا يراهنون على أن الغرب سينقل التقنية لهم، ويحاولون الدخول ولو شركاء في مواد أولية وغيرها في التوسع الاقتصادي للشركات الغربية، لكن هذه الشركات لن تمنحهم التكنولوجيا وستعرض عليهم فقط أن يكونوا واجهات تسويقية لها في مناطقهم. ما يغيب عن ذهن العرب هو أن التقنية ليست حكرًا على أمريكا ولا الصين ولا أوروبا، وهي متاحة لهم بشكل متساوٍ فيما لو توفرت لهم ثقة مماثلة في أنفسهم، لكنهم عليهم قبل ذلك، والبعض يعتقد أن ذلك مستحيل، التغلب على الخلافات البينية التي تبعثر مقدراتهم، و تدمر وتقسم بلدانهم. فلو اجتمعوا في كيان علمي وتقني واقتصادي واحد لتغير حالهم. فلدى العرب سوق ممتدة من الخليج للمغرب، وإمكانات علمية تملأ جامعات العالم، لكنهم عوضًا عن ذلك ضخموا خلافاتهم وانتهوا بالتقاتل حول الحسين ويزيد، والزهراء والإمام الغائب. وحولوا تاريخهم لأفيون أقوى بكثير من الأفيون الذي شنت بريطانيا بسببه حربا على الصين.