د. خيرية السقاف
في الوقت الذي تمدد فيه صيف حارق, وبات الناس يستلهمون السحب أن تحمل لهم من المزون السخية ما يرطب جفافهم, ويطفئ لهيبهم, ويُجري قرائحهم, ويدعو مخيلاتهم, ويطلق العنان لمدى عيونهم..
جاءتهم السحب بما يرتجون,
نزل الغيث, وهلَّ المطر, وتنعَّم التراب, وانتشى الشجر,
اغتسل المغبَّر, وتنهد المحموم, واستبشر الكادح,
انطفأ لهب الشمس, وارتهجت المخيلات بالجمال, وتراقصت الزهور في الفياض,
أطلت الأعشاب من مكامنها, وروائح التراب, والخضرة, والزهور تراقصت في محفل عليل الهواء,
انطلق المتظلل لبراح الفراغ, وملمس القطرة, ومشهد العذوبة..
والناس تتبارى في التعبير عن مكنون صدورها, ومصادر متعتها الروحية بالتسابق نحو مساقط الغيث, وبراح الصحراء, ومواطن الفياض, ومشاهد المراعي وهي تتلون بجمال طبيعته في حضرة المطر ولكن؟
ما الذي جيء مع الغيث في عنفوانه, والهطول في تدفقه, والماء في تكاثره؟؟..
وهو يتنزل بأمر ربه على الأرض, بكائناتها, والإنسان جزء من هذه الكائنات؟!..
مد ماءه على الصحراء, واكتنف الدروب والبيوت, والطرق, والمنعطفات, وتكاثر في المخابئ, والظواهر, والسطوح, والشقوق,
أجرى السيول, وتعمق في الجوف, ومدَّ العيون, وأنشأ البحيرات, وغلب السابح, والراكب, والعابر, والدابة في صحرائها, حاصر المنقض, وأسقط الرخو, وجرف الهش, وأباح عن الإنسان:
العاقل بحكمته, والمتهور باندفاعته, والمجازف بحماقته, والمنقذ بأريحيته, والغارق بضعفه, والمفرط في أمانته, والقائم بواجبه, والمتقاعس في همته, والسخي بروحه, والعضيد برغبته, والمسؤول بدوره, والمتطوع بإيثاره..
هؤلاء أصدقاء المطر, كلٌ بما أوتي من قلب, وحكمة, وطبع, وما اتخذ من مسلك ينجي أو يهلك..
من أجمل وأصدق المواقف التي تؤرخ لأصدقاء المطر, ما فعله صديق المطر في منطقة الصمان شمال المملكة حين حجز السيل في عمق مجراه قطيعًا من الإبل لجاره الكويتي, فاستنجد به, فلبىَّ على الفور, وكان وفريق عمله جنودَ إنقاذ لقطيع الإبل الغارق في الماء..
جازف رجاله بالنزول في السيل لاستجابة النداء, وأنقذوا القطيع الذي ما إن شارفت تربة الأرض موطئ أقدام أولها إلا انطلقت التالية مسرعة تنفض طمي الماء عن أجسادها الشامخة, بينما هو يهلل بالحمد, يبشر صاحبها, يشكر فريقه, وهو يلتقط المشهد الذي رأيناه..
فللمطر حين ينزل جارفًا أصدقاء النبل, وهولا يفصل بين حد وآخر من حدود الأوطان المجاورة, تماما كحبل الصداقة الذي لا ينقطع إن وتَّدته المنابت, وأوتاد الخيام إن تجذرت لها الأعماق..
ومثل هذا النبيل ورجاله, أولئك الذين أنقذوا الغرقى في الجريان, والمتعثرين بالطمي في العبور, والمعطلة مركباتهم في الدروب المبللة, وكل أصدقاء المطر النبلاء..