د.عبد الرحمن الحبيب
على خلفية الاحتفال بالذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى حث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قادة العالم إلى «النضال من أجل السلام»، قائلاً «تخريب هذا الأمل بالانجذاب إلى الانسحاب أو العنف أو الهيمنة سيكون خطأ ترى أجيال المستقبل بحق أننا المسؤولون عنه».. وفي تلميح لسياسة ترامب، دعا إلى رفض الشعبوية باعتبارها «خيانة للوطنية»، قائلاً: «عندما تقول (مصالحنا أولاً ولا يهمنا الآخرون) فإنك تضحي بأغلى شيء لأي أمة وهو قيمها الأخلاقية».
بطبيعة الحال لم يذخر ترامب بردِّه القاسي عليه، كاتباً بتويتر: «مشكلة إيمانويل أنه يعاني من تدني مستوى شعبيته بشدة (26 %)، ومستوى بطالة يبلغ 10 % تقريباً. لقد كان فقط يحاول تشتيت الانتباه.» إنما أكثر ما أثار غضب ترامب هو دعوة ماكرون لتشكيل «جيش أوروبي» موحّد ومستقل من أجل حماية فرنسا من «الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة»؛ إذ سخر ترامب مغرداً: «ماكرون يقترح بناء جيش أوروبي لحماية أوروبا من أمريكا والصين وروسيا مع أن ألمانيا هي التي كانت مصدر التهديد في الحربين العالميتين الأولى والثانية. كانوا قد بدأوا يتعلمون الألمانية في باريس قبل وصول الولايات المتحدة».
ينبغي ألا تضللنا قسوة الكلمات التي يغرِّد بها ترامب، فهذا أسلوبه الذي يختلف عن المضمون الفعلي لقرارات إدارته؛ وهو نفسه صرح الأسبوع الماضي، عندما سُئل في مقابلة إن كان هناك ما يأسف عليه في أول سنتين له في السلطة، ردَّ: «أقول اللهجة.. كنت أود التحدث بلهجة أقل حدة بكثير.. أشعر إلى حد معين بأنه ليس لدي أي خيار ولكن ربما أفعل ذلك وربما وددت أن أكون أقل حدة من هذه الناحية» بحسب رويترز.
بغض النظر عن حدة الآراء التي يطلقها ترامب فهو يمثّل توجه أساسي في الرأي العام الأمريكي وسياسته نتيجة لهذا التوجه وليست سبباً له؛ فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال خطره المباشر على أمريكا صارت الأخيرة تنأى تدريجياً عن التناغم مع السياسات الأوروبية، وترى الأولوية للأهمية الاقتصادية مع دول شرق آسيا، والمخاطر الأمنية من روسيا والصين. وتفاقمت الحالة مع الإدارة الأمريكية الحالية التي ترى أن القارة الأوروبية «العجوز» أصبحت عالة عليها سواء في حمايتها بحلف الناتو الذي تتحمّل أمريكا أغلب تكلفته أو في الاتفاقات المجحفة بنظر الأمريكان التي تم صياغتها آنذاك تحت تأثير الخشية الأمريكية من الخطر السوفييتي.
وحتى على الجانب الأوربي فالحديث عن إنشاء جيش أوروبي، بدأ منذ بضعة عقود كأفكار فضفاضة، لكنه صار جدياً منذ بضعة سنوات، فقبل مجيء ترامب للسلطة بنحو سنتين، كتب روبرت كابلان في فاينانشيال تايمز البريطانية مقالاً بعنوان «الصبر ينفذ: أمريكا لن تدافع عن أوروبا طويلاً» موضحاً أن عدم رغبة باراك أوباما في التعامل مع بوتين قد لا تكون تعبيراً عن السياسة الخارجية الخاصة بالرئيس الأمريكي، بقدر ما هي تعبير عن تحول تدريجي في الرأي بالولايات المتحدة تجاه التساؤل عن السبب الذي يدفع أمريكا للدفاع عن القارة الأوروبية التي لا ترغب في الدفاع عن نفسها!؟
لماذا لا ترغب أوروبا في الدفاع عن نفسها وتعتمد على أمريكا؟ الإجابة النمطية هي أن الأوربيين اعتادوا على حياة الرفاهية وعدم القلق من المخاطر العالمية بالاعتماد على الحماية الأمريكية، بينما بناء جيش أوربي موحد سيجبر دافعي الضرائب الأوربيين على إنفاق مليارات الدولارات التي ستؤثر حتماً على نمط حياتهم المريح. فالأوربيون بعيدون عن روح العسكرة كما يقول الروس، واعتادوا على الدلال، كما يقول الأمريكان، لكن «ليس بعد الآن» حسب تغريدة مستشار الأمن القومي الأمريكي بولتون. لذا فالكاتب الروسي سيرغي أكسيونوف يرى أن السؤال، ليس ما إذا كانت أوروبا قادرة على تحدي القيادة الأمريكية، إنما ما إذا كانت تريد ذلك. لقد اعتادت أجيال كاملة من الأوروبيين على العيش لعقود تحت المظلة الأمريكية، والسيطرة والتأثير الأمريكيين. لذلك، فمع كل خطوة من الخطوات الأمريكية، تتفاعل أوروبا بحدة، بعصبية، ولكن ليس أكثر، فالأمر يقتصر على البيانات الرسمية.
ثمة إشكالية أخرى في بناء جيش أوروبي موحّد ومستقل عن أمريكا وحلف الناتو، على الأقل بالمدى القصير، وهو أن الأوروبيين في حيرة من أمرهم وليسوا موحّدين سياسيًا، وأوربا منقسمة بهذا الشأن.. فإذا كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أيدت بقوة فكرة ماكرون، فإن الدنمارك وهولندا استنكرتا بشدة كلام ماكرون عن الحماية من أمريكا، لأن الأخيرة هي الحامية لأوربا، فضلاً عن رفضهما لإنشاء جيش أوروبي موّحد لأن كل بلد أوربي قادر على حماية نفسه.
الخلاصة أن هناك معضلتين لتشكيل جيش أوروبي موحد ومستقل: الأولى هي اعتياد الأوربيين على الاعتماد على أمريكا لسبعة عقود، والثانية هي انقسام أوروبا على نفسها. بيد أن الأوروبيين أمام لحظة حاسمة لتحديد خياراتهم، بدلاً من الخطب البلاغية بالاحتفالات. لقد كان الاحتفال بالذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى أو ما كان يسمى «الحرب لإنهاء جميع الحروب» بين القوى العظمى بأوائل القرن العشرين، بداية لانشقاق جديد بين الأوربيين، فمن أوروبا ظهرت الحربين العالميتين وتلتها حروب كثيرة، فيما المستقبل يزداد غموضاً..