د. خيرية السقاف
تضطرب الأفكار في ذهن المرء ينحو بعيداً بذاته, فالتوحد بالذات لا يختلف في هذه اللحظة عن السائل المتحرِّك بمزيج في إناء, فإذا ما تُرك لمدة هدأ واستقر, فتبين ما في قاع الإناء, وفصل ما بين الخليط الممتزج لحظة الغليان!..
أجل فالأفكار تغلي في الذهن كغليانه..
مصادر الأفكار تختلف, ومضامينها, وموضوعاتها تختلف باختلاف ما يرد للمرء, وما يصدر عنه..
على مستوى صنّاع المنجزات المذهلة فإن هذا الوعاء الشاسع المكتنز بأسراره في الإنسان كثيراً ما كان, وكثيراً ما يكون مصدراً لسعادة, أو لشقاء البشرية عامة, إذ لا تقف المنجزات الكبرى عند حدود منجزها كالذي بين أيدي البشرية من المنجزات المذهلة في قدراتها, الفاعلة في دمار البشرية بما فيه دمار أخلاقها, ومسالكها, ومقاصدها..
فمنجزات البشرية المهلكة تترى, وتتدفق, بأكثر من منجزاتها المسعدة..
ولعل هذا الإنسان المعاصر الذي تتدفق منجزاته يحسب أنه حين يفكر في تطوير آلة مدمرة, أو جهاز تواصل خارق القدرات, أو نشر ثقافة غذائية, أو إيجاد حلول لتدفئة مبترد, أو تبريد مستعر, أو, أو, أو نحوها, وتأخذه أفكاره في لحظات مخاضها, واضطرابها, فاستقرارها, فتخليصها من شوائب خليطها, والخروج بها لناصع الضوء أنه ينجز ما يسعد البشرية, وأول طيف فيها هو ذاته, غير أنه يفعل العكس في كثير مما ينجز, فالقليل ذو النتائج المفيدة الباقية بعيدة المدى في ظاهر حياة البشرية, بحسب مجريات واقعها يصطدم بالكثير المهلك, الذي لم يتضرر به البشر, والحياة الطبيعية فقط, بل ارتفعت مضاره إلى أعنان فراغ الفضاء الذي يحتوي الأرض ومن فوقها, وما في جوفها..
في الظواهر العامة في الحياة المعاصرة نشهد كيف يضرُّ الإنسانَ بمنجزات أفكاره الإنسانَ الآخرَ باستخدامها..
الأرض تتقلص, والإنسان تزداد في الحياة فوقها مطامعه, وتطلعاته..
وكل يوم هو في شأن اضطراب أفكاره, وجنون رغباته..
في هذا الجانب لأفكار البشر, فإنهم يتصارعون على البقاء كأنهم في غابة لا حدود لامتداد موائدها..
وفي الجانب الآخر, وحدهم المتطهرون من غوايات أطباقها هم أولئك الذين ينأون بما تعتلج به أفكارهم عن هذه الغابة, وموائدها إلى فضاءاتهم الروحية الفسيحة, حيث محاكاة الأجنحة, وموارد الماء, ومصافحة الخضرة, والإصغاء لغنج الزهور في حضرة النسائم, ومزاريب القلوب النقية تساقط الكلمات المنتقاة, واقتناص البسمات النقية في الملامح, ووجوه تتمادى نحو الموج, تتعالى نحو اليقين, تمشي في الأرض خفيفة الوطء فوق أديم من «أعين فاتنات الاحورار»..
بقلوب تهفو للمطر, تقيم الأود بخبزة من رغيف الصبر, والفرح, والألم, والعطاء, والإيثار, والصمت, والتأمل العميق!!..