د.عبدالله مناع
هاتفني أحد الأصدقاء الأعزاء -ممن يتابعون مشكوراً- ما أنشره في صحيفتنا العزيزة (الجزيرة).. (معقباً) على مقَاليّ السابقين عن (ديفون.. والثقافة الفرنسية الحاضرة).. و(معاتباً) لي، لأني لم أنصف الأديب والممثل المسرحي الفرنسي الساخر (جان باتيست موليير) بذات القدر الذي أنصفت فيه الأديب والسياسي الفرنسي: (فرنسوا فولتير).. وقد كان توأماً له: مكانة وإبداعاً وتاريخاً.. فـ(الاثنين) فولتير وموليير كانا يمثلان واجهة الثقافة الفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.. إلى آخر ما جاء في عتبه!
ومع سعادتي بـ(الأمرين) معاً: التعقيب و(العتب).. كانت ذاكرتي الثقافية تحشد نفسها.. لاستكمال ما نقص من حديثي عن الأديب والممثل المسرحي (جان موليير)، الذي بدأ حياته (الأدبية) و(المسرحية) بـ(الانضمام) إلى فرقة (يجار) المسرحية، التي كانت تضم أعداداً كبيرة من الممثلين الفرنسيين المحترفين، التي أقامت أول مسارحها.. في العاصمة الفرنسية (باريس).. حيث أخذت تقدم عليه أعمالها المسرحية.. لكن الأعمال الأولى لـ(الفرقة) لم تلق ذلك الرواج المنشود.. مما اضطرها إلى مغادرة (العاصمة باريس) إلى الأقاليم الفرنسية الأخرى.. حيث حققت الفرقة بعض (النجاح)، الذي مكنها من (العودة) بعد حين إلى (باريس).. ليتعهدها (ملك فرنسا) آنذاك بـ(الرعاية) والعناية والدعم.. مما أعاد إلى الفرقة وهجها.. ومكن (موليير) من مواصلة كتابة مسرحياته التي لفتت إليه الأنظار والأسماع، وهي تُضحك الفرنسيين جميعاً في (باريس) وخارجها.. ببراعة موليير في تصويره الشخصيات التي كان يقدمها على مسرحه، ولطرافته في خلق المواقف.. ولقدرته على السخرية والإضحاك معاً، بدءاً من مسرحيته الأجمل والأعظم (طرطوف) فـ(المتحذلقات) فـ(مدرسة الأزواج) فـ(زواج بالإكراه) و(طبيب رغم أنفه).. لتسافر تلك المسرحيات إلى بقية الدول الأوروبية بعد ترجمتها إلى الإنجليزية والإيطالية والألمانية والإسبانية.. فتشاهدها كل الدول الأوروبية، وهي تلقى استحساناً منقطع النظير.. ليصبح (موليير) (ملك الملهاة) وأستاذها.. بل امتدت مسرحياته إلى المشرق العربي ومسرحه مع جيل رواده آنذاك: يوسف وهبي وجورج أبيض ونجيب الريحاني الذي مصَّر في أواخر ثلاثينيات وأوائل أربعينيات القرن الماضي مسرحيته الرائعة (طرطوف) لتصبح (كشكش بك)...!!
* * *
ولكن.. وقبل أن يصل مسرح (موليير) وأعماله: ترجمة واقتباساً.. إلى (شارلي شابلن) العرب ومسرحيته (كشكش بك) وفيلمه الأعظم (غزل البنات)، الذي يعتبر بحق مدرسة مدارس السينما العربية.. كان قد وصل إلى فرنسا في عشرينيات القرن العشرين الشاعر والزجال المصري الجنسية والتونسي الأصل: (بيرم التونسي).. منفياً بسبب إحدى قصائده الزجلية، التي جعلت أمير الشعراء أحمد شوقي يقول عنه وعن شعره، وأزجاله: (إنني لا أخش على الشعر العربي.. من أحد إلا من «بيرم»)!! ليعيش في أول مرافئ منفاه: مدينة (مارسيليا).. وسط زحامها وعالمها وعمال مينائها الأشهر والأكبر والمطل على مياه البحر الأبيض المتوسط.. عيشة البؤس والفقر والقلة، وهو الشاعر والزجال الذي لا يعرف من دنياه (غيرهما)...!!
ولكنه.. ومع غربته ووحدته وانحطاط الأعمال التي كان مضطراً لأدائها.. حتى يعيش.. لم ينس نفسه وقيمته، ولم ينس شاعريته.. وأزجاله وقد كتب يصور حياته وغربته وكروبه.. قائلاً:
(الأوله آه. والثانية آه. والثالثة آه.
الأوله: مصر قالوا تونسي ونفوني جزاة الخير وإحساني
والثانية: تونس وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صافاني
والثالثة: باريس وفي باريس جهلوني وناموليير في زماني)!!
ليعود إلى مصر بعد عشرين عاماً.. بلا (جواز سفر) أو أي أوراق (ثبوتية) من أي نوع، فلم يكن لـ(منفى) مثله.. ترف الحصول على (جواز سفر) أو تأشيرة مغادرة للأراضي الفرنسية.. في رحلة تنكر ورعب لا يقدم عليها إلا من فضل (الموت) - في طريق عودته - إلى وطنه.. على (الحياة) في غربته!؟ فقد اختبأ في إحدى السفن المغادرة لـ(فرنسا).. والمتجهة إلى جنوب شرق آسيا مروراً بـ(قناة السويس).. لتقف به على شواطئ (الشام) أولاً.. قبل وصولها إلى مدينة (بورسعيد) التي كان يستهدف الوصول إليها من خلال تلك المغامرة، التي وصفها -فيما بعد - قائلاً في قصيدته الزجلية الجميلة: (غلبت أقطع تذاكر).. والتي استهلها قائلاً:
(غُلُبت أَقطع تذاكر
وشبعت يارب غربه
بين الشطوط والبواخر
ومن بلادنا لأوروبا
وقلت ع الشام أَسافر
إِياك أَلاقى لي تُربه
(فيها أَجاور معاويه)
وأَصبح حمايةْ أُميَّه)
إلى أن وصلت به سفينته إلى مدينة (بورسعيد).. ليقول:
(في بورسعيد السفينة
رست تُفرِّغ وتملا
والبياعين حَوّطُونا
بكارت بوستال وعُمله
لكن بوليس المدينة
ما تزغش من جنبه نمله
يا بور سعيد والله حسره
ولسه يا سكندريه)..!
ليواصل.. مصوراً لخطة هبوطه إلى ميناء بورسعيد وقد وقفت به سفينته على أطرفها.. قائلاً:
(هتف بى هاتف وقال لي:
إنزل ومن غير عزومه
إنزل دي ساعة تجلي
فيها الشياطين في نومه
إنزل دا ربَّك تملِّـي
فوقك وفوق الحكومه
خطيت في ستر المهيمن
للشط يا حكمدارية
وأقول لكم بالصراحة
اللي ف زمانا قليله
عشرين سنة في السياحة
وأشوف مناظر جميلة
ما شفت يا قلبي راحة
في دي السنين الطويلة
إلا أمَّا شفت البراقع
واللبدة والجلابية)
ليدخل إلى (بورسعيد).. ومنها إلى الإسكندرية - مسقط رأسه - فـ(القاهرة).. ليكتب ويبدع، ويصبح ثاني (كتَّاب) أغاني كوكب الشرق أم كلثوم بعد الشاعر الكبير الأستاذ أحمد رامي، لتغني مصر.. ويتغني سمارها خلف كوكب الشرق بتلك الأغاني التي أبدعها قلمه.. من (الآهات) إلى (الأوله في الغرام) إلى (أهل الهوى يا ليل) إلى (غنى لي شوي شوي) إلى (الأمل) و(حُلم) و(حبيبي يسعد أوقاته) إلى (هوه صحيح الهوى غلاب) إلى (ناداني لَبِّيته) التي عُرفت بـ(القلب يعشق كل جميل).. وقد رضيت عنه مصر كلها وهي تمنحه (جائزة الدولة التقديرية) في الشعر، ولقب (فنان الشعب) تقديراً وإكباراً له..؟!
* * *
ليمضي الزمن بـ(المولييريين) - إن جازت هذه الـ(تثنية) لغوياً -، فيرحل أولهما: (موليير) فرنسا في ختام القرن الثامن عشر.. ويرحل ثانيهما الذي سمى نفسه باسمه: (موليير العرب): بيرم التونسي.. في ستينيات القرن العشرين، ويبقى كلاهما خالداً: موليير فرنسا.. في ذاكرة المسرح العالمي، وموليير العرب - محمود بيرم التونسي.. في ذاكرة الأغنية العربية العاطفية والوصفية والوطنية: استلهاماً وقياساً ومحاكاة!!