من اللاشيء انبثقت فارسة البحر بثوب أزرق فاتح كلون انعكاس السماء على البحر ساعات الشروق، وخطت خطوات ثابتة نحو فارس يجلس في ظلام دامس مطأطئ رأسه، وصوت نحيب خافت يصدر من تلك الجهة، واقتربت هي وكأنها الشمس طالعة حين تشرق، وراحت تقترب وكأن أوائل النور تطوي أواخر الظلمة، وكأن شيئًا من بياض جاء يتتبع سواد ذلك المكان ويخفيه.
اقتربت منه، وبعكس كل الأميرات ركعت على ركبتيها؛ لتنظر إلى وجهه، ثم مدت يداها فرفعت وجهه؛ لتلتقي عيناه عينَيْها، وكانا في تلك الصورة كإحدى القصائد البديعة كفن من فنون الشعر والتصوير المحكم؛ فقد كان فارسًا يحمل هيبة الملوك والسلاطين جالسًا برداء الفرسان، رداء أسود يشير إلى تاريخ الموت والألم والتمزيق.
كانت امرأة ذات شعاع، رمقها بطرفه، فغاصت عينها داخل عينه، وجال طرفه في شعاعها وبريقها؛ فاستضاءت، واستضاء، ونضج الدم في وجهه كمؤشر لعودة الحياة. نزل من مقعده ذاك ليكون لها أقرب. جلست في اعتدال، وكأنها تقول ها أنا أرخي سمعي لأحاديثك.
نظر إليها قبل أن ينطق، وترك قلبه يحدثها بابتسامة تقول بعض النساء يذهبن الحزن ولكنهن هن من يتممنه. ورمقها بنظرة لامعة، مفادها لا تتقد الغابات إلا من أشد النيران وأقواها، وجئتني لتتقد أحاسيسي بك في شعاع وهمك، ثم نطق ودار بينهما حوار كالآتي:
من أنتِ؟
لم أكن أعرف الجوهر العظيم داخلي إلا بقربك.
ولماذا أنا؟
لأن داخلك السر الخفي الذي صورته لي الآن بلِمَ أنا.
وأنا وأنت؟
رجل من عامة الأرض، انبثق في نفس حبيبة وأنثى من عامة الأرض، زرعت في نفس حبيب.
ألسنا من عامة السماء؟
بل الحب جعلنا صاعدين من الأسفل إلى الأعلى.
وما الذي حدثك بهذا الذي أنتِ في صداه؟
كلمة السر بيني وبينك؟
أجل سيدتي لِمَ هي؟
كان لدي عزم أن أروي لك وللكثيرين تلك الصورة من الزمن الفاني التي مررت بها، ثم أعلم جيدًا أني لست جيدة في سرد القصة، لكن قبل الموت والرحيل كان لا بد أن أترك لك هذا.
ولِمَ الموت ولِمَ الرحيل؟
دعني يا سيدي أنهي حديثي، لا تقم بمقاطعتي، ثم لا تنسَ الموت خير.
سأقاطعك دائمًا إن لم تتوقفي عن تمزيق أحشائي.
أتعلم؟
ماذا؟
في سماء العمر هناك ابتسامة ملتهبة تمشي فيها الكهرباء بصواعق مدمرة. وكنت أنت تلك الابتسامة. ثم هناك في القلم شيء يدفع إلى الهلاك وينتزع النفس ويترك الإنسان كقطعة من الفناء، وجئت أنت لتكون فنائي الأرضي.
كنت سلمًا يا سيدتي وأوردتني إلى موارد الحروب فأتيتِ لقلبي؛ لتكوني تراجم الحرب والتاريخ الغزلي. أتيت بشيء من الحياة، وتودين الآن المضي بشيء من حياة الماضي إلى القبر.
بل جئت قلبًا مخلصًا، وتركت بي بقايا آلام، وأحالت قلبي إلى أشلاء.
بل جئتني أنتِ بزيادة في الحب وزيادة في البغض ودمرتِ قلبي بالألم.
امتلأت عيناها بلؤلؤ وضاءة، ونزلت قطرات لؤلئية على خدها، فاستقبلها بكفه عله يكف شيئًا منها، وقال لها: يخيم الغمام في عينيك وبين شفاهك فتمطرين قلبي بحرفك وبدموعك، فتارة تأخذيني لأغتسل بمياهك حبًّا، وتارة ترميني بوابل يمزق كل أحاسيسي عتابًا.
أنت من زرع بي كل هذا، تعلم جيدًا أني لم أكن أعي شيئًا منه، وبقوة إحساسك انبثق داخلي، وعلى يديك ذقت ألوان من العواطف والأحاسيس، غيبت عن فهمي سابقًا؛ فقد سلبت روحي إلى روحك، واختفيت فيك، وها أنت الآن تعيش بروحينا.
لعمري لم أكن أود نسيانك، ولم أود رحيلك، كنت سأسعد برؤيتك كل يوم من بعيد.
تعلم جيدًا إن بقيت كنت سأعذبك دون أن أرق لك، كنت سأصرف عنك السعادة على وجه آخر، كنت سأتركك في حالة من الجوع تتمنى وتتمنى، لكن الآن ما زلت تجدني بجانبك وتحادثني وتسمع ما تريد أنت سماعه، ولا يحادثك أحد في شأني.
كنت أودك حقيقة، أودك منجم سعادتي الذي لا ينضب.
نهضت حينها من أمامه، وسارع هو في النهوض، وقبض على يدها، وشدت يدها من بين يديه، ونظرت إليه، ثم قالت له اتبعني، ومشى خلفها كما أرادت، وخرج برفقتها من ذلك الكوخ الصغير الذي كان يجلس به. كانت السماء حينها تتلألأ لكثرة ما تحمل من النجوم، وكانت الطريق مظلمة، يشق ذلك الظلام ضوء القمر الذي رافقهما في مسيرتهما، ثم تسارعت خطواتها وكأنها تطير على الأرض، لا تمشي على قدميها، وأخذ هو يركض خلفها بين الأشجار إلى أن أنهكه التعب، فطالبها بالتوقف، فقالت له: لم يتبقَّ أمامنا سوى القليل.
لكني متعب، ولن أكمل معك السير، اجلسي وحدثيني، وجلس على الأرض دون حراك.
لن أفعل.. علينا الوصول قبل بزوغ الفجر.
لم ينتصف الليل بعد، أجلسي وحدثيني، ثم نكمل إلى المكان الذي تريدين الذهاب إليه.
لم تلقِ له بالاً، ووقفت مقطبة حاجبيها، وتمنعت عن محادثته. فوقف واقترب منها، وأجلسها عنوة، وجلس أمامها، وقال: كم من امرأة جميلة تراها أصفى من الأنهار والسماء، ثم تثور وتغضب فتقطب حاجبيها، و..
وضعت أصبعها على فمه أن توقف لا تكمل، وأبعدت وجهها عنه، فقال: الحبيب من تلتهمه ويلتهمك بكل حواسكما.
نظرت إليه وقالت بنبرة غاضبة: كل ما يخطر في بالك عليك أن تأتي بضده وتتخيله إن كنت تعي الحب والبغض، وإلا.... ثم سكتت ولم تكمل جملتها.
فابتسم في وجهها وقال لها: ليتهم عندما يعلمون الفتيات التحدث يعلمنهن متى يسكتن عن الكلام كما تفعلين.
أعادت النظر إليه وقالت: ليتهم يعلمون الفتيان أنه قبل الاقتراب من وردة عليهم تعلُّم التعامل مع شوكها كما تفعل.
وليست كل الورود كأنتِ في زهوها العطر، وطبيعتها النظرة، وفي سلبها أحداق من ينظر إليها. ثم نهض ومد يده لها، وقال: فلنكمل السير.
ابتسمت وقالت له: ألا تود أن ترتاح قليلاً؟
أجابها: لن أتعب بالسير قربك.
نهضت وسارت برفق أمامه؛ فهي تعلم أنه يكابر لأجلها، ثم حادثته وهي تسير أمامه وسألته: من أنا؟
أجابها: لذع نار وإسكار خمر.
وقفت وأدارت وجهها له، وقالت: كيف هذا؟
ابتسم، وقال: لن أتحدث.
فقالت له بعد أن ابتسمت هي الأخرى: أهذه بتلك؟
قال لها: ماذا إن كان كذلك؟
أدارت وجهها، وبادرت بالسير وهي تقول: وأنت تعتيق له.
تبعها ليصل إلى مستواها في السير، وسار بقربها، وقال: تعتيق لماذا؟
أجابت: أنت تعلم.
قال: وكيف ذلك؟
قالت: أيجوز أن تكون هذه بتلك؟ ثم أخذت تبحث في الأرض وهو ينظر إليها، وسألها: عن ماذا تبحثين؟ أشارت بيدها أن أنتظر قليلاً، ثم أشارت إليه، وقالت اقترب وخذ هذه. اقترب ووجد أمامه قطعة من الخشب، وابتعدت عنه قليلاً، ثم جلست وقالت: له احفر هنا.
** **
- خديجة عمر