د. عهود سالم
سمعتُ ذات مرة عبارة مفادها أننا نعيش عصرًا نحتاج فيه إلى مهاراتنا أكثر من شهاداتنا. وإذا سلمنا بذلك فستكون مهارة التخلي، أو ما يعرف بـ«Letting go»، واحدة من أهم المهارات التي نحتاج إليها اليوم أكثر من ذي قبل؛ لأنها مهارة حياة، وليست عملاً. تقتضي هذه المهارة القدرة على التخلي عن كل ما يقف بيننا وبين الوصول لذاتنا العليا، أو الغاية التي خُلقنا من أجلها في هذه الحياة. يطول هذا النوع من التخلي الأشخاص السامين الذين نتقاطع معهم، المواقف المؤلمة، الأحلام التي لم تتحقق، وحتى الماضي. فالتمسك بما يستنزف وقتك وطاقتك أيًّا كان لن يأخذك إلى الوجهة المنشودة أبدًا، بل سيتحول إلى حجر عثرة بينك وبين المستقبل؛ لذلك يقول كثير من المهتمين بتطوير الذات بأهمية ألا يعيش الإنسان في الماضي، وأن الاستسلام للمواقف الصعبة أو الشخصيات السامة هو بمنزلة تأجير غرفة في بيتك بالمجان للص الذي تسلل إلى منزلك، ولا إنسانية أو بطولة في استضافة لص جاء ليسرق منك حياتك!
مشكلتنا أننا اعتدنا على استضافة هذه النوعية من اللصوص.. نعطيهم مجازًا الأرقام السرية للخزانة التي نحفظ فيها ممتلكاتنا الثمينة، كوقتنا، تفكيرنا، مشاعرنا وطاقتنا.. بل يأخذنا كرمنا إلى خطوة أبعد، تقتضي تسجيل عملية السطو في شريط رديء، نعيد تشغيله على مدار الأربع والعشرين ساعة، وبدون توقُّف، ناسين أن جهاز التحكم بأيدينا، ويمكننا دومًا تغيير المحطة، وفي أي لحظة.
شخصيًّا، تعلمتُ مع الوقت أن الذكريات المؤلمة هي أول الأمور التي لا بد أن يتخلى عنها الإنسان إذا أراد مصافحة المستقبل.. فلا يمكن أن تصل إلى المحطة الهدف في حياتك إذا كانت عيناك تنظران إلى الخلف. وتعلمتُ أيضًا أن البطولة ليست في عدم تلقي الرصاصة، بل في المضي قُدمًا دون أن تلتفت لمن خلفك. لم أعد مهتمة بأن أسأل سؤالي الأزلي: لماذا فعل من فعل ما فعل؟ هذا النوع من التخلي لم أصل إليه إلا عندما نجحتُ في أن أغيِّر الزاوية التي أنظر من خلالها للأمور. مع الأيام اقتنعتُ بأن الألم قد يكون طاقة صديقة، وقد يأخذني لمحطات أجمل في المستقبل. تعلمتُ أيضًا أن الأشخاص السامين هم دروس عملية، وضعها القدر في طريقي حتى يساعدني على اكتشاف نقاط ضعفي؛ فأعرف كيف أطوِّر ذاتي دون أن أعطي هؤلاء الأشخاص مساحة من سعادتي. في عالم الملاكمة -كما سمعتُ- يحرص المتدربون المبتدئون على تلقي أكبر عدد من اللكمات أثناء تدريبهم بغية رفع مستوى التحمُّل لديهم. فإذا أتت المعركة الحاسمة لا يمكن لأكثر اللكمات شراسة أن تلقي بهم أرضًا؛ لذا بت أعتقد أننا في الحياة نحتاج أحيانًا إلى أن ندفع مقدمًا رسوم نجاحاتنا وعظمتنا. فلا يصنع العظماء إلا الألم، وعقلية متزنة، تجمع بين القدرة على التخلي والتطلع للمستقبل.
كم عدد الأشخاص الذين تخلوا عنك؟ ظلموك؟ خيبوا ظنك؟ إن لم تكن الإجابة صفرًا فأنت على الطريق الخاطئة. ليس لأنه لا يوجد أعداء لك على الطريق، لكن التحدي يكمن في ألا يحتل هؤلاء أكثر من صفر في عينيك وتفكيرك؛ فالأشخاص لا يملكون أي قوة عليك ما لم تمنحهم أنت هذه القوة. وعندما تسول لك نفسك أن تنتقم تذكر أن أكبر انتقام هو أن تكون بخير، وقادرًا على الحلم والحب والعيش بسلام.. أن نختار أن تعيش بدلاً من أن تموت.. أن تنظر للمستقبل بكثير من الحماسة والرغبة.. أن تسير نحو ذاتك العليا مقتنعًا. ليس كل عدو عدوًّا إذا تحليت بالعقلية السليمة التي تجعلك تنظر لهؤلاء كتحويلات إجبارية «detour»، تغيِّر معها خط سيرك، وليس هدفك. متيقنًا بأن الكون يسير بنظام دقيق، ولا يمكن لأحد أن يخل به مهما بلغ من السوء؛ فالكون - كما تقول المؤلفة غابرييل بيرنستين - سيتولى حماية ظهرك.